رئيس التحرير: عادل صبري 04:27 مساءً | السبت 20 أبريل 2024 م | 11 شوال 1445 هـ | الـقـاهـره °

"مارس 2037"..حكايات الحجب والطرد من جنة "الخالد"

06 أغسطس 2017

"مارس 2037"..حكايات الحجب والطرد من جنة "الخالد"

عبدالوهاب شعبان

"مارس 2037"..حكايات الحجب والطرد من جنة "الخالد"

إننا محجوبون.. (تخبرنا صفحة الموقع بحقيقة الأمر كل صباح).

 

رغم تكرار الفشل في الوصول إلى ما نشتهي من كتابات، نكرر المحاولة كمحب في لذة المراهقة ينتظر رد الجواب، وكسر الحجاب، ونتسلى بخيبات اليوم على أمل انصراف الحجب، كشعاع ضوء يترقب إزاحة الضباب.

 

(1)

حين أبلغ الخمسين، سأكون محتفظًا بذاكرة استثنائية تمكنني من السرد، سيتبدد خوفي من الكتابة إلى خوف آخر من فجأة الموت، وسأصبح أكثر رغبة في الحكي على حساب مخاطره، في مثل هذه الفترة سوف لا أعبأ بهؤلاء المطرودين من غرف الأخبار لأنهم خالفوا أمر" الخالد".

 

ولأنها مرحلة قد لا أدركها سأسعى مع الوقت للتحرر من قيد الرقابة الذاتية على عبارات ممنوعة من التدفق، سألجأ إلى الروايات، إنها مساحة للكذب والمراوغة، والبوح منزوع الرهبة، يمكنني من خلالها كشف عورات شلة" الباشكاتب" الذي تحرر من أذى وخز الضمير، واستمرأ قاعدة" لعن الله من أيقظه".

 

وأصعد البناية العريقة بشارع عبدالخالق ثروت للتأمل في مشهد رأسي على وفود المارقين بعضوية رسمية إلى داخلها، وهم يتأبطون أوراق الـ"برنتات" الخاصة بزملاء العقدين الماضيين كمسوغات للترشح على مقاعدها.

 

ثم أسند رأسي إلى حافة الكرسي الخشبي مستدعيًا خوفي الشديد من التنكيل المجاني، وأمر على سنوات الرحلة قبل أن يقطع صمتي أحدهم بابتسامة صفراء لم تتغير منذ عشرين عامًا، طالبًا الدعم، والمساندة، بينما تبرز إحدى "تدويناتي" من ورقة أسفل برنامجه الانتخابي.

 

(سأبتسم بالطبع حين يعدني بحل أزمة الحجب التي أكلت عمري، وارتوت من نزيف أحلام الزملاء الجدد في رواق المهنة).

 

(2)

آفة المحبين التعلق، ولذة "المرشحين" التملق..

 

منذ عشرين عامًا كان هذا الموقع يحتضن عشرات الصحفيين الجيدين، بينهم بالطبع قليل من الموظفين التقليدين، لكنهم في النهاية لم يبرحوا الالتزام بخط مهني واضح، وتمسكوا حتى اللحظة الأخيرة بتجربة وليدة أوشكت على النضج، والضربات الموجعة أحدثت شرخًا في جدار الأمل، حيث لم يعتد هؤلاء عثرات الطريق المفروضة، والمرفوضة، على حد سواء.

 

أحتسي فنجان القهوة في الطابق الثامن كفاصل مؤقت، بينما يدعوني شاب عشريني حديث العهد بالصحافة للمواصلة، أخبره بهدوء من اطمأن لـ"اللامبالاة" أن البرنامج الانتخابي الذي يقرؤه الآن هو ذاته الذي طالعته أنا منذ عشرين عامًا، الفارق الوحيد أن فنجان القهوة كانت تكلفته (جنيهان)، غير ذلك تطوي الأيام هنا صفحاتها على أشباهها من وجوه احترفت الفوران في أيام الدعاية، وادعت فيما بعدها قرب انتهاء الأزمات، والحكايات متشابهات.

 

هذا ركن المفصولين تعسفيًا، المطرودين من جنة "الخالد"-اذهب إليهم واستمع جيدًا-يلتفت الشاب إلى مجموعات تمزق أوراق الدعاية، وبعضهم يصنع منها قراطيس، وطائرات ورقية تأخذ وضعية الهبوط من أعلى.

 

(مثل هذا الهبوط يا فتى يكون لمن يلتزم قواعد السير في منطقة "دندراوية") - تلك آخر النصائح-.

 

(3)

الفقد، والركض مرهقان، وبأيهما خسارة الرهان..

 

أتجول في شارع مزدحم باللافتات، وجوه منسحقة أسفل مساحيق التلون، وأسماء ذات بريق لافت في دنيا "سحق الزملاء" مذيلة بشعار أزلي (من أجل استرداد حقوق الصحفيين)، أتذكر قدوم أحدهم لإحدى الصحف كشخص شارد في موالد الأولياء، لا ينطق إلا بطأطأة رأسه لمن سبقوه، يتزلف، ويتملق من يلقاه رغبة في نشر موضوع واحد بعد أيام عقم مهني بائن، ولما واتته فرصة كسنيد في إحدى اللقاءات، انشقت الأرض عن قبحه الزائد، وانصرف إلى مهنية الوشايات، سيكون هذا بعد أيام قلائل رئيسًا لأهم لجان البناية العريقة.

 

يسألني أحد المارة عن موعد الانتخابات، فأعود بالذاكرة إلى فترة الحجب المرهقة التي كانت قبل عشرين عامًا، وأباغته بإجابة باردة: حين يسقط هؤلاء كطائرة ورقية تهبط من أعلى، يرفع بصره، فأدعوه لتلقفها قبل أن ينصرف.

 

كل شيء في محيطها لا يشي بجديد، محض ذكريات فائتة، ومشوار انقضى مبكرًا، دون أثر لفائدة، التقط ورقة لبرنامج أحدهم فتستوقفني عبارة: (إعادة التحقيق في مقتل الزميلة ميادة أشرف)..

 

(4)

ما الذي استجد بعد عشرين عامًا سوى موت من أخذوها على محمل الجد؟

 

دعاني أحد المرشحين - بحكم زمالة مفروضة في البدايات - إلى جولة انتخابية بموقع "إليكتروني" كان ضمن قوائم الحجب في عقدين ماضيين، ذهبت أتحسس روائح المكان، وعبق الرحلة المنتقاة، عرفته إليهم، وماضيه يزكيه بالطبع في البطش بمخالفيه، قال وهو ينتفش في صالة التحرير كطاووس هائج: "بإذن الله سنضع خطة عاجلة لضم صحفيي المواقع الإليكترونية لنقابة الصحفيين"، المدهش أن الزملاء الجدد تفاءلوا بوعده، سأتركهم يتفاءلون..

 

قبل أن يغادر سألني شاب بدت عليهم ملامح الريفي الخام: سمعت إن حضرتك كنت بتكتب مقال من عشرين سنة، قرأت لك، لماذا توقفت إذن؟..، أشرت للمرشح الخمسيني، وقلت: لا يسعنا المجال، ما كتبته ستلقاه في حافظة مستنداته، ستفهم فيما بعد..

 

بدا الثراء على وجه الزميل-"هكذا يقولون منذ عشرين عامًا كنوع من المحاذاة البليدة"-كثقة لافتة في حسم الموقعة، وهو الذي كان في سنوات المحنة يكيل الاتهامات القاسية، ويسطر الأحرف الباغية لإغلاق المكان، المكان الذي يستعطف موظفيه الآن..

 

(5)

لا تقرب هذا المجال يا ولدي..خذ من شيبة أبيك لشبابك..

 

تقول زوجتي: لا تفرض مأساتك على ولدك الحالم بالكتابة، إنك إذا فعلت تنقل له عدوى التقوقع على الذات، والانكفاء على عزلة مبكرة، حال امتهانه ما لا يرغب.

 

سأصطحبه ليوم التصويت بالمبنى العريق، سأمنحه فرصة السلام على كبار الكتاب المفتون بهم، وهو القادر على قراءة الوجوه المتنكرة لكل موهوب يضع قدمه على بداية الطريق، أومأت برأسها: دعه يقرر..

 

صباح 15 مارس 2037 ذهبنا معًا لوسط القاهرة، في العاشرة توافد عدد منهم، كان العناق بيننا جبانًا كعادته، مودة مخدوشة، وأياد ملوثة بحبر التقارير اليومية لمكاتب الرؤساء، قدمت ابني لأحدهم، وعرفته إليه: هذا الأستاذ..........، انفرجت أسارير الصغير، واحتفى بالكاتب القدوة-حسبما يصور له خياله-، احتضنه، ثم دار حوار مقتضب بينهما، أثنى الشاب على كتابات الصحفي الشهير، فارتسمت بلادة الغرور على وجنتيه، وردها عليّ بقوله: ابنك شغوف بالكتابة.. الله يرحم أيامك، بس لو طلع بنفس عقليتك بلاش أحسن-قالها بابتسامة نكراء لم تغيرها السنوات..

 

سرد المحسوب على قائمة (جبهة إنقاذ النقابة) نبذة من تاريخي المشوه على الابن الحالم، وأسر في أذنيه رسالته: سيبك منه، وشوف مستقبلك..

 

(6)

عدنا لنشاهد نتائج الانتخابات على الفضائية المصرية، نجحت القائمة بأكملها، وبعد شهرين، هاتفني صحفي شاب: يا أستاذ كلم صاحبك اللي وعدنا بحل أزمتنا مع النقابة، الموقع اتحجب..

 

ابتسمت، وأكملت فنجان القهوة..

  • تعليقات فيسبوك
  • اعلان

    أحدث المقالات

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    محمد إبراهيم

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    السيئ الرئيس!

    سليمان الحكيم

    السيئ الرئيس!

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    علاء عريبى

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    تامر أبو عرب

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    ما جريمة عادل صبري؟

    يحيى حسين عبد الهادي

    ما جريمة عادل صبري؟

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    أميمة أحمد

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    محمد إبراهيم

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    عادل صبري حفيد النديم

    سليمان الحكيم

    عادل صبري حفيد النديم

    عادل صبري وترخيص الحي!

    علاء عريبى

    عادل صبري وترخيص الحي!

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية

    السيد موسى

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية