
في مديح "الطابونة".. لو أنّ لصاحبها ضمير
عبدالوهاب شعبان
في مديح "الطابونة".. لو أنّ لصاحبها ضمير
كل ما هو دائر حاليًا لا يعبر بالضرورة عن مسميات مطاطة كـ "الإصلاح" مثلًا، ولا يبشّر بأمل في أحلام مصلوبة على التشنجات (الاصطفاف نموذجًا).
أقصى ما يمكن فعله هو الصمت، مصحوبًا بأمنيات الخروج الآمن لما تبقى من المنطق. لذلك، على الأجيال القادمة ألا تقرأ تدوينات السبع العجاف، وألا تتوقف عن صناعة الأمل.
(1)
مصر ليست طابونة - (هذه بديهية حياتية راسخة).
الطابونة: اسم مشتق من طابون، وهو الموضع الذي تُطبن فيه النار لكيلا تطفأ. ويعرفها المجم الوسيط على أنها (مخبز، أو فرن).والفعل(طبن)- أي: فطن.
في بلادنا التي لها قاموس خاص تشير الطابونة إلى الفوضى، وهو أمر لا يتسق مع عمل منظم، له مدخلاته، ومخرجاته.
بالتالي تبرهن التجربة على أن مصر ليست "طابونة" على الإطلاق.
(2)
للطوابين قوانين، يشذ عنها البعض، وتحرسها الرقابة.
بعضها يقف الفقراء على أعتابها مستسلمين لتجبر صاحب "الفرن"، بينما يخرج الخبز للأغنياء على أقفاص، فاقع لونه يسر الناظرين.
ومن هنا ينبثق وجه شبه بينها وبين "مصر"، حيث انعدام جدوى الصياح على أبواب مغلقة، وانكفاء طوابير الفقراء على نافذة ضيقة، وقضبان صماء.
وبعضها يفرض مساواة، وتكافؤ فرص، لا يلمسها مواطن إلا ساعة من نهار.
(3)
نريدها طابونة بالحقيقة، تصنع الخبز، وتقهر العجز.
القائد فيها يقف على فوهة لهب، يلقي ما في يده، فيخرج خبزًا يسد حاجة الناس، دون منّ يتبع فعله، ولا أذى يلحق بمن يتراصون في طوابير منتظمة ينتظرون خيره.
ويحكمها قانون يستوي عنده صاحب المخبز حين يخالف، وموظف التموين إذ يمد يده للرشوة.
لا تفرق في مخرجاتها بين أغنياء تصلهم (جوالات الدقيق) إلى منازلهم، وبسطاء محكومين بقاعدة (لايجوز الشراء بأكثر من جنيه واحد).
(4)
أكثرها فسادًا ما يقع في دائرة الإشراف الحكومي-فلا تضربوا أمثال الفساد، دون مراجعة.
وليس هناك أوقع من صور انتهاك آدمية الناس، بالقهر، أو بالأمر، لصالح ديكتاتور يطل برأسه من منفذ البيع.
بينما يتضاءل حجمه حين يأتيه صوت موظف ما، يفرز له ما يشاء، بالكمية التي يشاء.
قبل المعايرة يسوق المنطق إلى وقفة مع التوصيف، ودقة في التشبيه، والتكييف.
(5)
المؤسسات التي لاتنتج خبزًا، تنتج بؤسًا.
لا يمكن استيعاب لهجة الفرض، والوعيد، إلا في سياق نسق عدالة يستوعب الجميع، ويلمسونه كجدار مقدس لا يشقى عنده أحد.
كما أن الاستعلاء لا ينتج إلا غشاوة تحجب الرؤية، كضباب صبته السماء فجأة على طريق.
من ذلك تتضح معالم الإجابة على سؤالين محوريين: (لماذا ضاعت الثورة؟)، ولماذا يضيق الوطن؟.
(6)
الفرّان – صانع الخبز - لا يسمع ضجيج الطامحين في لقمة عيش.
مع ذلك لا يتوقف أبدًا عن صناعته، هو لايعنيه سوى انتهاء فترته بسلام، والحصول على أجره قبل أن ينصرف.
يكشف وضع كهذا عن دور نافذ لـ"صاحب الطابونة"، لو أنّ له وخزة من ضمير، يهدأ بها صراخ الطوابير.
وهو الذي يحدد ما يكفيه، وما يخفيه، لا رقابة عليه إلا ذات تدرك حجم مسؤولياته، وتحدد يوميًا أولوياته.
(7)
"الصنايعية" مغلوبون على أمرهم-يبررون السرقة، ويتصالحون مع السارق.
لذلك إذا صلح صاحب الطابونة (صلحوا)، وهنا تكمن الأزمات المتعاقبات.
ولا ينتظر انفراجة في دائرة مغلقة، المعروض فيها يجهز في غرف مغلقة لا تمسها الرقابة من أي اتجاه.
(نحن كجماهير نرى الخبز كل صباح، لكننا لا ندري كيف صنع، وما الذي يضمن سلامة تناوله).
(8)
الوطن يصبح طابونة إذا أوصدت أبوابه، وتعامل معنا عبر نافذة ضيقة، قضبانها صماء.
وهذا الصراخ خلف النافذة ينتهي تمامًا بشراء بضعة أرغفة من الخبز، فلماذا يدرك البعض الحلول، ويماطلون في تنفيذها؟.
أحلامنا أبسط من أن نستمر في طرق باب متجهم، غليظة أقفاله، والخبز في أيدينا.
الخبز يساوي (الحياة)، ليس لقمة عيش وفقط، اصنعوا طوابين للعدل، الخير، الحرية، والجمال.
(9)
الطابونة لـ"الخبز"، والوطن لـ"العيش"، الأولى تصنعه، والثاني ملزم بمقاومة من يمنعه.