
أن تكون مصريًا زملكاويًا محررًا للملف القبطي !
عبدالوهاب شعبان
أن تكون مصريًا زملكاويًا محررًا للملف القبطي !
لا شيء أتعس من كونك مجبر على ثلاثية كهذه (صمت، انتظار، وانكسار)، وإذا كنت مصريًا، زملكاويًا، أومحررًا للملف القبطي- هذا الأسبوع تحديدًا -، فإنك بالطبع ذا نصيب لا بأس به من التعاسة، وللأمر قياسه.
(1)
علمتنا السنوات، أن الحب من جانب واحد، قطعة من العذاب، لكنّه يظل حبًا، عصي على النسيان.
والخيار، حصار لا فكاك منه، إذا كان بمحض إرادتك، ليس لك فيه رفاهية التقلب، لأن الحب المشروط، كالعقد المفروط.
(2)
ذات يوم كنت طفلًا يردد خلف محمد ثروت في شغف (مصريتنا وطنيتنا حماها الله)، كبرت فتمايلت معه طربًا إذ يقول (رسم الخطة ألف محطة، خد نصها والباقي وراه..علشان كده احنا اخترناه).
رسخت في ذاكرتي صورة للوطن الجميل، والقائد الذي (لا بيخدعنا، ولا يطمعنا، بكلام إنشا ملهوش معنى) حيث يتكيء على يمينه في وقار، يبتسم ابتسامة رضا، ويهز رأسه كلما ينتهي أحد مدّاحيه من مقطوعته.
عرفت منهم أيضًا أن موقعه كرئيس (تكليف، مش تشريف، ولافخفخة، ولا ملك جاه... حمل تقيل، وهموم جيل، جاي وأجيال جاية وراه)..
ولما تخرجت، أخبرني رئيس لجنة الاختبارات بإحدى المؤسسات الكبرى، بضرورة البحث عن (واسطة)، لأن وظائفهم محجوزة، بينما كانت اللافتة تواصل خداعي بعبارتها (من أجلك أنت).
ثم لما اعترضت، انقرضت، وذاكرتي لا تزال تؤرقني بأن (اللي بنى مصر كان في الأصل حلواني).
(3)
والطفولة، وعاء التكوين، وذاكرة رهن التلقين.
قفزت حين صاح المعلق الرياضي محمود بكر-رحمه الله- (نزلت عدالة السماء على استاد باليرمو)، طفت غرفتي، طوافًا عفويًا كمن حاز انتصارًا صغيرًا، ووددت لو أني اخترق شاشة التلفاز، لأسدد في مرمى هولندا، حبًا، ووفاءً، اهتزت الشباك، فصار شارعنا احتفالية منزوعة (خدت ايه مصر بسكوتك)، لأنها كانت في قلوب الجميع.
تعلقت بكرة القدم، كأنها براح المحبين، صديقي المقرب كان زملكاويًا، والأغلبية يشجعون الأهلي، والأغلبية كريهة في كل حالاتها، في كل مرة يبدو لي فعل الفوز المتكرر بلا فواصل باعث على الملل، وحسمت أمري بانتقال التوأم، هؤلاء مخلصون، معاندون، سأكون زملكاويًا.
فجأة في بضع سنين، حوصرنا بمحتكري الحديث باسم الوطن، والزمالك، كلما رفعنا لهما شعارنا (سنظل أوفياء)، تمادوا في فشلهم، وحدثونا عن المؤامرة، وضرورة الانتظار !.
وفي كل مرة تنتظر، ثم تعود من مباريات متعاقبات بـ"خيبة أمل" مكررة، وتصريحات عبثية، تتسق مع لاعبين معدومي الطموح، كوصلة أسبوعية مقدرة.
(4)
كنا أبرياء، الفصل المدرسي وطن للتعايش، لا فروق، ولا شقوق.
نحيي العلم معًا، وننتشي حين يقول قائد الشرطة المدرسية (هذا علم بلادكم، يرتفع عاليًا في سماء العزة والكرامة)، ويقرأ "ميلاد" معي نصوص اللغة العربية، يعرف أسرتي، وأعرف أسرته، يرنم في حصة الموسيقى، ونشارك معًا في مسابقات أوائل الطلبة.
لم يخبرنا أحد عن مستقبلنا، تركونا على إنسانية مطبوعة، لنواجه انتقائية استقطابية مدفوعة.
(5)
لأنك خارج المعاناة، مهما قرأت لا يمكنك تخيل المأساة.
في الصحافة طريقان، اقتفاء الضمير، أو اقتناء التبرير، وبينهما ثابت إنساني، كجسر ممتد للقابضين على جمرها.
أجبت بالموافقة، حين سألني رئيس القسم عن إمكانية تكليفي بتغطية الملف القبطي، وحينها لم أكن أعرف شيئًا، لم أكن أعرف سوى رغبة التحقق لحجز مكان في سباق مشروط بالتميز(رغم دناءة أساليب العرقلة)، حتى لا تصير رقمًا مهملًا.
وقفة بالشموع حداد على ضحايا مذبحة نجع حمادي-يناير 2010-، تعرفت فيها على صديقي الشاعر رمزي بشارة، كانت مفتتحًا للتعرف على حزن آخر، بكيت متأثرًا بالكلمات، مر اليوم، نسيت، وتتابعت السنوات.
(6)
والملف القبطي يعرفه الصحفيون، أن تكون معلقًا في الهواء بحثًا عن معلومة موثقة، تندثر إذا خمنّتَ عند المصادر، وتنكسر في صحيفتك إذا لم تبادر..
تعايشت على مدار سنوات سبع مع أحداث، وأشخاص، وحُملت مع زملائي حملًا على اعتياد النعوش، الصراخ، والجنازات الجماعية الموجعة، دون اكتراث بتراكم خصم من رصيدنا الإنساني، لصالح الأرشيف الصحفي.
حتى بدا في الأفق حادث الكنيسة البطرسية، كوجع ليس كمثله وجع، وكنت مضطرًا كالعادة لحضور قداس الجنازة، وهناك اختلف الأمر تمامًا، الزغاريد التي تملأ الشاشات ليست إلا هامشًا فاترًا على متن صرخات أمهات مكلومات، والدموع تحفر أنفاقًا على وجنات الآباء، والأشقاء، ثم تراصت النعوش كنذير رعب، كسر شيئًا ما لن يفلح ترميمه، عطفًا على ما كسر فينا منذ ما بعد 2011 على وقع أحداث دموية متكررة.
(7)
أريدك أن تعلم أن الأقباط بشر عاديون، أفئدتهم أيضًا تصير فارغة في الوداع..
يتجدد الانكسار حين نمر مكرهين على روائح الدماء، تكسرنا الحكايات التي ننقلها، نظرات المعلقين بآمال الشفاء في طرقات المستشفيات خلف كل حادثة، ذكريات المودعين للأحبة، ثم فرض الكتابة عن كل هذا، والتأهب لما بعده من ترتيبات، وصلوات جنائزية، وعزاء.
نتألم حين نصادر على الناس حزنهم، ونقطعه لفاصل من الحكي، لأننا معنيون برصد، ومتابعة المأساة، ويزيد الألم بهؤلاء الذين يجرون الأحداث إلى مناطق صراع لا وقته، ولا أوانه، كأن هذا الحزن الافتراضي اللحظي، لن يرقى يومًا ما لجلال المشاهد، وفجأة الفقد.
(8)
فكر لـ"لحظة".. ماذا لو كنت (مصريًا) في سعار الجدل، (زملكاويًا) استمرأ شماعات الفشل، (محررًا للملف القبطي) مقسوم على ثنائية الثابت الإنساني، وحتمية العمل، منذ الأحد الماضي، حتى الآن وفقط؟- (دعك من سنوات سابقات)-
ثم قل لي: ماذا لو كان هذا قدرك الأبدي الذي لا مفر منه؟