ومضة وطيف.. في ذاكرة الصيف
عبدالوهاب شعبان
ومضة وطيف.. في ذاكرة الصيف
لماذا يرحل بلا موعد من قضوا نصف الوقت في محاولات إدراك موعد؟
(1)
وحدها الصدف تجبرنا على التفاؤل في مجيئها، نبني على وقع كلمات عابرة آمال تجاوز حد المقبول، نرسم بالايحاءات مسلمات بديهية لمجرد أنها لامست شيئًا ما كامنًا في اللاوعي، ونجيد لعبة المرايا العاكسة، كتأمل وجه غائب بقيت ملامحه بساحة قلب فارغ إلا من الطيف.
والصدفة ليست إلا كومضة برق خاطفة، سريعة الإبهار، حتمية الاندثار.
(2)
الصيف سيد المفاجآت، قصير وقتها كـ"ليله" تمامًا.
قالت الرسالة: إنني أتابعك منذ عام، اقرأ لك، وأدون ما استطعت من تراكيب العبارات، سأكون بخير لو أخبرتني كيف يمكن لأنثى أن تقهر وحدتها، وهي بين أنياب الحنين، تواجه ذاكرة محملة بحكايات لم يبق منها سوى أشباح تطاردها كلما طالعت نصًا لـ"نزار قباني"، أو مستها تدوينة عابرة.
عند هذا الحد كان بإمكاني أن أتفهم معنى (اللغة رشوة للنساء)، وأقدم ردًا تقليديًا يسوّقني كـ"فيلسوف" قادم لتوه من أساطير اليونان، يحتسي أكواب الحكمة نهارًا مع "سقراط"، ويقدمها في المساء كـ"مهديء" للوحيدين.
ما أتعس التجارب إذا كانت مستنسخة-(أقولها في خاطري كل يوم).
(3)
نستوي جميعًا خلف لوحة المفاتيح، ذلك لأن الأحرف لا تفرق بين الادعاء، والانتماء.
ثم قالت: وأنت حين تكتب تشعرني بأن هذا الكون له مذاق خاص، كأنني أرى تقلباتك حين تتعثر في صياغة مفردة، تأملك للملهمة التي في خاطرك، دخان السجائر الكثيف، وفنجان قهوة ينتهي إلى نصف احتساء.
أتصورك حين اقرأ روايات حائزة على جائزة "البوكر" مشروعًا لا يقل عن هؤلاء الروائيين، سأكون بجانبك حتى تتم روايتك الأولى، لا تفكر في أعباء الواقع، ومعوقات المستقبل.
(سقط الماضي من عروض الدعم المجانية، لأنها كأنثى بالطبع تتجنب المقارنة).
(4)
تخبرنا التجارب بأن العلاقات كالإشارات، لا مرور إلا بضوء أخضر.
يصطدم سيل البوح اللا محدود بصخرة الصمت، تنجرف ذاكرتي لهذه الأنثى المتوجة على العرش، هنا في نفس المساحة كنت أتذوق أحرفها كقطرة ندى هبطت على وجنة سوسنة، أتوحد مع كلماتها كدرويش هائم، أتأمل صوتها الخافت، عيناها النابهتان، شغفها بالتفاصيل، والكواليس، حكاياتها عن تفاهة الشعر، والأدب، وتعظيمها للنوادر، وقصص الارتباط.
تواصل القادمة على جناح الصدفة حديثها الذي لاينقطع عن ضحاياها، وتحذر من مس شيطاني يصرع من يقترب، وتقترب رويدًا رويدًا من متشابهات بعضها فوق بعض، كل من أغوته احترق، والغوايات شرط البدايات.
(5)
كذلك الصوت يقف في منطقة وسطى بين الإغواء، والإدعاء-(يصفو إذا جاء من قلب نقي).
استجمع ذاتي حين يتواصل الحكي -الهاتفي- المباشر، والسرد لا جدوى له إذا جاءك يكرر ما لديك، لا إبهار في تكرار، ولا أنثى تبهر إلا بذكاء مطبوع، و ثقة أخاذة، دون ذلك يبدو كل شيء في وضعية الأوقات المستقطعة.
جذبني حديثها عن التصوف، والمتصوفة، ذلك العالم الذي يحتل فيه اللاشعور مساحة أوسع، وتترافق أرواحه في سماوات متفرقة، قالت: إنني حين أزور الحسين استشعر لقاءً حميميًا مع أبي، أترك شكايتي، وأغادر بدمع مكتوم.
(6)
تحلق الروح حول ما تشتهي، يأسرها، أو يكسرها.
كسرعة البرق المتسقة مع وميض المصادفة، تصير المحادثات قاسمًا ليليًا مشتركًا، تزينها وجوه بلاستيكية صفراء، تقف على مسافة واحدة من الإرسال، والاستقبال، كحوارات رسمية متدثرة بطابع الود، مبطنة بجفاف ظهيرة صيفية.
أخرجت ما في جعبتها من آليات تنفيذ عروض الدعم، سلكت طريقها دون إشارة مرور، فارتطمت بتعرجات لا يمكن تجاوزها، يفعل ذلك الغرباء، حيث لا وضوح في المسير، ولا ثقة في المصير.
(7)
لا قاعدة للحب، كم في الأفئدة يستقر عابر، ويندثر حاضر.
وليس هناك أسوأ من التكلف في علاقة إنسانية، تذبل تمامًا إذا سقيت به، وهو صنعة يتقنها المشوشون، و يدمنها المشوهون.
كما أن اشتهاء الامتلاك جسر هلاك منصوب على مستنقع الغرور.
(8)
خفت ما بدا من ضوء المقدمات، انطفأ لهب الحكايات على موقد القواعد المجردة، حين ظل مشتعلًا رماد الحنين إلى طيف لا تبرحه العين، إذ لا يصف دواء خلاص من أعياه في الهوى رجاء الخلاص.
علاقات الافتراض كالاقتراض، لذة في ابتداء، وعبء يزول بالانتهاء.
