
خيبتان في زيارة بابا الفاتيكان لمصر
عبدالوهاب شعبان
خيبتان في زيارة بابا الفاتيكان لمصر
نفضل دائمًا خداع الذات لتمرير كثير من أوجاعنا اليومية، وخيباتنا التي لا تنقطع.
(بابا السلام في أرض السلام) - قالت اللافتة الدعائية -، أما القنوات فأبهرت بما لم يُتوقع من فنون الإعجاز في إعلام النشاز.
(1)
حظوظنا تتناسب عكسيًا مع الأمنيات، كأحلام اليقظة على سفح تل الروتين.
قالت الكنيسة الأرثوذكسية إن دخول الصحفيين يبدأ في الفترة من الساعة الثالثة والنصف حتى الرابعة والنصف عصرًا، لا دخول بعد هذا الموعد(بيان ترتيبات الزيارة الخميس الماضي).
الضيف-بابا الفاتيكان- يجيء في السابعة، ونحو ساعتين تمضيان في فعل اللاشيء، ثم يتبلور دور محرري الملف القبطي في مشاهدة عبر الشاشات، لا أسئلة، ولا معايشة، التغطية بالنوايا فقط.
يلتقط صحفي أجنبي صورة معبرة للمحتجزين خلف جدار في محيط الكنيسة البطرسية، يرمقون مراسلي الوكالات الأجنبية بنظرات الحقد، والحسرة معًا.
لماذا يجرد الصحفيون من أدواتهم؟.. الإجابة ملخصة في نصف ابتسامة، ويدين في وضعية الاندهاش، وارتفاع نسبي للشفة السفلى.
(2)
(لا تسمع نصائح التغطية عبر البث المباشر، بحجة هنا شاشة، وهناك شاشة أيضًا، الفضائيات تدمر الذهن، وتسبب البلاهة).
يطل مقدم الفقرة المستمرة منذ الصباح على فضائية تظن أنها رائدة الحصريات في كوكب الأرض، دعك من تعبيرات الافتعال الزائد، والتكلف المرير، واللغة الركيكة التي تحيلك باللاوعي إلى كتم الصوت، وتأمل ما يجري من مداخلات مع قادة كنسيين، وتعليقات على تحركات بابا الفاتيكان.
-لا تفعل ذلك إلا بعد نصيحة طبيب أعصاب حتى لا تصاب بنوبة ارتفاع في ضغط الدم، حين ينطق الإع-لامي النابه (قُدّاس) دون تشديد حرف (الدال)، ويبدأ حديثه لأحد قساوسة الكنيسة الإنجيلية بمصطلح (نيافة القس)، دون حد أدنى من معايير الآداء الإعلامي في تغطية زيارة بهذا الحجم.
ثم ترسو الخيبات الواضحات في تجاهل كلمة تاريخية لـ"بابا الفاتيكان"، بما تحمله من قضايا جديرة بالتحليل والدراسة، لصالح التهليل بـ"الدعاية المجانية للسياحة) التي ينتظرها العالم.
(3)
كيف ترى (نيافة القس) دعوة بابا الفاتيكان لنبذ العنف؟-يسأل الإع-لامي النابغة..
قبل أن ينطق القس الإنجيلي بـ"حرف واحد"، يسترسل –عبقري زمانه-في سرد مواضع الأهمية، والرسائل المباشرة لقوى الإرهاب، لينحصر آداء الذي ينتظر عبر الهاتف في التعقيب بـ(آه طبعًا).
لم يعد مثيرًا للدهشة أن يحتل الابتذال مساحة عريضة كهذه على الشاشات، كنسخة باهتة من أحاديث (سعد الصغير) عن وفائه لزوجته، واستدعائه لبداياته التي صارت لازمة يتنقل بها على البرامج منذ 10 سنوات، ثم كلما ظهر، استفاض.
سيحط الحمام على أرض مصر، رافعًا على جناحيه أغصان الزيتون، بعد تغطية إعلامية استمرت يومين متتابعين بذات الجمل الروتينية المفتعلة عن السلام.
(4)
لن يبرحوا مواقعهم أيًا كانت الأخطاء، كل الحكاية أن رؤساءهم مقتنعون تمامًا، وعلى المتضرر الضغط على "ريموت كنترول" لمشاهدة محطة أخرى.
هؤلاء الذين يفسدون كل جميل في مصر، كان من الممكن أن يتهيأوا لزيارة تاريخية أعلن عنها قبل موعدها بشهر كامل، عبر دراسة مصطلحات كنسية حتمية الاستخدام، تدرج المناصب الكنسية، والألقاب المستخدمة لدى الكنائس الثلاث (الأرثوذكسية-الإنجيلية-الكاثوليكية).
لكن العادة جرت على تشويه كل شيء لصالح مجموعة من الهواة، لا يتعلمون، ولايريدون أن يتعلموا، إلا سبل المكايدة، وإخراج الألسنة لدعوات المهنية القادمة من متخصصين لايزالون في حضرة المنطق، رغم لهب الجمر.
(5)
-تتجلى عظمة أية أمة حين تنحاز إلى الفئات الأكثر ضعفًا - قال بابا الفاتيكان.
بينما كان المذيع النابغة منشغلًا بوصلة (هلس لغوي) لا يفهم منها سوى أننا خارج سياق القدرة على التعلم من الأحداث، أو حتى مناقشة مضمون الخطابات الجادة.
-(نحتاج إلى حوارات جادة على كافة الأصعدة-سياسيًا-ثقافيًا-اجتماعيًا، وليس دينيًا فقط)، حين افتتح القس د.إكرام لمعي المتحدث باسم الكنيسة الإنجيلية مداخلته بهذه العبارة، متبوعة بـتساؤل( لماذا ننتظر ضيفًا بحجم بابا الفاتيكان لنؤدي بهذه الطريقة؟)، أصيب القابع بحكم السبوبة خلف شاشة الحصريات بـ"لوثة" بدت في تراكيب لغوية عبثية متداخلة، أسفرت عن عبارة لا محل لها من الحدث جاءت في (طبعًا –نيافة القس-ولكن الخطاب يؤكد ضرورة نشر السلام).
-بإمكانك خلف كل إطلالة لغوية لهؤلاء أن تصوغ حروفًا ثلاث مقولبة في جملة اعتراضية (...).
(6)
-لماذا لم يهتم هؤلاء بخطاب تاريخي مواز لـ"فضيلة الإمام الأكبر د.أحمد الطيب شيخ الأزهر)، رغم عبقرية لغته، وقيمة مضمونه؟.
-ببساطة شديدة-لأننا لم نبرح مشاعر الدونية بعد.
أما البابا فرنسيس – ذا الذكاء الشديد - والخبرة البائنة في ملامحه، ونظراته المعبرة، كان في أعلى درجات تركيزه حين تحدث الإمام، الضيف يدرك مغزى اللحظة الراهنة في شرق أوسط محشور في فوهة لهب، كما أنه يعرف قدر المرجعيات الدينية حين تسيد الخطاب المتطرف أرجاء الشرق العربي.
للقادة الحقيقيين جاذبية أخاذة، ليس فقط في خطابات مصنوعة بعناية، إنما في تزامن اللغة الحاضرة مع لغة الزمن الحاضر.
(7)
-أجمل ما في الزيارة أن بابا الفاتيكان لم يجلس دقيقة واحدة أمام شاشات الهواة القادمة من كوكب آخر.
بما لا ينفي عن زيارة كهذه إيجابيات متعددة على الصعيدين الديني، والسياسي، ولمحات خالدة ربما لن يسعى أحد لمناقشتها لأننا نتعامل دائمًا بطريقة (فرح العمدة)، كمتلازمة لقرع الطبل، وإهمال العقل.
(8)
وأود لو أن متخصصين راجعوا تغطية هؤلاء لخطابين عالميين (الطيب - فرنسيس)، يحتاجان إلى حلقات متواصلات لنقاش مضمونهما، واستلهام خطوات عملية لنقلهما من التنظير، إلى التحقق.
كما نريد إجابة شافية بشأن السماح لمحرري الوكالات الأجنبية بآداء مهامهم بصلاحيات كاملة، مع إقصاء متكرر لـ"صحفيي الملف القبطي" إلا من دور المتفرج.
وإلى حين يسعنا مزيد من لقاءات إعلامية لمناقشة (تطاول سعد الصغير على شعبان عبدالرحيم)، وأثره على الأغنية الشعبية!