
عن الذي لن يبكي عليه سامح شكري
عبدالوهاب شعبان
عن الذي لن يبكي عليه سامح شكري
جلس الرجل على سلم منزله، غارقًا في العرق المنبعث من مسام جسده، جراء انقطاع الكهرباء ظهر يوم صيفي شاق، أذن لي بالدخول، جلسنا، وبدأ القصة من آخرها..
الحكاية بريئة تمامًا من شجن الرثاء، ومشاطرة العزاء..
(1)
اكتسى وجه الرجل الخمسيني خجلًا، تعثرت مفرداته، وبدا كغريق لم يكن على ظهر مركب رشيد، لكن موجة الغلاء الفائرة حملته إلى غرق من نوع خاص، تسلل القهر إلى صدري، وهو يحكي عن تراكم فواتير الكهرباء، والمياه، وخلاف مع مالك المنزل قد ينتهي بطرده، بسبب محضر حرر ضده من إدارة التحصيل، غالبته الدموع حين اشتدت وطأة الشكاية من ضيق الحال، ولخص أوجاعه في عبارة باقية:" طلعني من الزنقة دي يا ابني".
أسمعك وأنت تردد الآن : لا شيء يبدو غريبًا، هذه مساحة عوز مشتركة لدى عموم المصريين..
(2)
ستكون المقارنة دائمًا لصالح من في القبور، إذا اقتربت مما تحمله مثل هذه الصدور..
يفصلنا عن بدء الدراسة –وقتئذٍ-48 ساعة، للرجل 5 أبناء موزعين على مراحل التعليم المختلفة، لم يفصح عن حاجته لشراء مستلزمات المدارس، ونسي أنه أخبرني في سياق سرده المأساوي أن ما يملكه من الدنيا 30 جنيهًا، هي ما تبقى من أجرة عمله أمس، أسرها في نفسه على طريقة الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، مبديًا حرصه الدائم على ارتداء ملابس منمقة تقيه نظرات الشفقة اتساقًا مع عمله كـ"سائق ميكروباص" في قرية تحكمها المظاهر.
حكى السائق عن مرارة العمل التي يتجرعها يوميًا بناتج لا يزيد في أفضل حالاته عن 70 جنيهًا، عن تجبر "ملاك السيارات"،وتحمله حماقات زائدة لا تناسب سنّه-يتقبلها مضطرًا-، وأسفه الممهور بالحسرة على تسرسب سنوات العمر دون أن يوفر لأبنائه بيتًا صغيرًا يقيهم تكلفة الإيجار المرهقة، ويضمن لإبنه الأكبر استقرار نسبي يوازي نظرائه من أبناء عمومته.
(3)
الفكة لم يطلبها مهزوم في معركة الحياة، حين طلبها من فارقت مواطنيه رغبة الحياة.
أبدى الرجل حزنًا طفوليًا بريئًا، حيال تصوره أن شركة الكهرباء قطعت عنه الخدمة عقابًا على عدم سداد فواتيرها، قال: انقطعت الكهرباء فأيقظتني شدة الحر، خرجت لأتأكد ما إذا كان الانقطاع عموميًا أم لا، لاحظت دوران مراوح الجيران، فأيقنت أن الشركة قطعت عني الخدمة.
تساءل في وداعة استثنائية: "اشمعنى قطعوها عني لوحدي"!.
تماسكت، وأجلت دموعي لما بعد الانصراف، إذ ليس منطقيًا أن يتحول السند إلى مطرقة تزيد "قصمة الظهر".
(4)
القهر الذي أنطق عرّاب النظام ودفعه للتساؤل "رايحين على فين؟، قتل من لم يستطع الجهر بالسؤال، وفي الخلفية "طبّال" يدعو للتفاؤل.!.
أمضيت مع شكايته ساعة تقريبًا، تخللها حنينه لذكريات شبابه، طموحه الذي لم يتبلور بعد في شراء سيارة ميكروباص تحول بينه وبين تحكمات الملّاك، حكايات خذلان متكررة في محيطه، انطباعات المقربين عنه في كونه شخص مستهتر يهدر فرص العمل، ومعايشة لواقعه الذي لخصه في رقة منكسرة:" أنا اللحمة مدوقتهاش من العيد اللي فات"، كأنه يرد على هؤلاء الذين لا يريدون أن يسمعونه، وقد باتت قناعاتهم حاجزًا يفصله عن بث همّه وحزنه لهم في معاناته الأخيرة، وهو الذي رهن الطرد من منزله إلى المجهول.
(5)
هذا الرجل تعثر، فانكسر، فاستجار، فخذل، فشهق، ورحل، هذا ما فعلته "القيمة المضافة"..
أخبرته قبل انصرافي أن مشكلته بسيطة، وأن الأمر كله لا يستدعي إرهاق ذهنه على هذا النحو، سيكون كل شيء على ما يرام في غضون أيام قليلة، توحّد مع انكساره متأسفًا على مشاطرتي همومه، فابتسمت ابتسامة مسروقة، كـ"طبطبة" معنوية تمحو ولو قدرًا ضئيلًا من معاناة يضمرها فؤاده..
على باب المنزل استوقفني قائلًا: "ما تنسانيش"، ولست أدري، هل كان ذلك رجاءً يتسق مع حاجته الملحة؟، أم وصيةً عالقة تحسبًا لشيء ما يعلمه وحده؟!..
(6)
خلف كل باب مصري وجع يتمدد، خلف كل وجع مصري سترٌ يتبدد.
تبادلنا اتصالات هاتفية متقطعة خلال الأسبوع الماضي، يأتيني صوته المتشبث بقليل من الأمل : ماذا فعلت؟، فأقص عليه نتائج محاولاتي مع إدارة الكهرباء، يغلق هاتفه منكفئًا على خيبة أمل، وأنا لم أكن أدري أن مهلة السداد 15 يومًا فقط.
صارع الرجل تتابع الأيام، جثمت المحنة على صدره، كلما مر يوم يتضاعف يأسه، مساء الخميس الماضي هاتفته لأخبره بأن ثمة جدولة ستجري باتفاق مع صديق بالإدارة، فلم يرد.
مساء الجمعة، رن هاتف أمي، فأطلقت صرختها: خالك مات.
للتواصل مع الكاتب..