
اختيارات.. عمر السجن ما غير فكرة
إكرام يوسف
اختيارات.. عمر السجن ما غير فكرة
لا شك أن صورة الصحفي في الأفلام والمسلسلات المصرية؛ ليس لها أدنى صلة بما يعيشه الصحفيون في مصر!! وكثيرا ما أثارت هذه الصورة خيالات الصبايا والشباب، وداعبت أحلامهم بالنجومية، أو نزعة البطولة الفردية! وأثارت أيضا كثيرا من مشاعر الغيرة، عند بعض من يعملون في مهن أخرى، يرونها لا تلقى نفس القدر من التلميع والقداسة! لدرجة أن بعضهم لا يخفي الشماتة عدما يتعرض صحفي لتعنت، أو مطاردة في رزقه، أو قمع لحريته!
غير أن الواقع الذي يلمسه معظم الصحفيين في مصر، يؤكد أن أصحاب هذه الأعمال الفنية، ربما يستقون معلوماتهم من أعمال فنية أجنبية، صورت في بلدان يختلف واقعها تماما يؤمن فيها المواطنون أنهم السادة في أوطانهم، وأن المسئولين ـ مهما علت مستوياتهم ـ موظفون، يعملون لدى شعب ائتمنهم على أملاكه وموارده، لإدارتها وفق ما يحقق مصالحه! وتحرص هذه الشعوب على مراقبة المسئولين، وكشف أخطائهم ومحاسبتهم عليها ـ مثلما يفعل أي صاحب عمل مع موظفيه ـ ومن ثم، يكون لكل العاملين في مجال الرقابة الشعبية، سواء كانوا نوابا منتخبين، أو إعلاميين، أو قضاة مستقلين، وضعا استثنائيا مميزا.
غير أن الأمر ـ مثلما لا يخفى على كثيرين ـ مختلف تماما عندنا.. فمن يلتحقون بالمهنة، إما من خدعتهم الصورة الشائعة عما يتمتع به الإعلاميون من نجومية، وثراء، ونفوذ، وعلاقات بأصحاب السلطة!! أو ممن قرروا أن ينذروا حياتهم لرسالة البحث عن الحقيقة، والدفاع عن المظلومين ومواجهة الفساد والاستبداد!! وعادة ما يكون الواقع محبطا للنوعين.. فالاقتراب من السلطة والنجومية، في مجتمع يعج بالفساد ويرزح تحت الاستبداد، يحتاج مواهب شخصية ـ ربما لا تتوفر للكثيرين ـ تتعلق بالقدرة على النفاق والرياء والتحايل والتسلق، وتخطي الصفوف، ودق الأسافين، والتلصص على الزملاء، وتلفيق التهم للكفاءات؛ وما إليها من مهارات، تتطلب التنازل تماما عن أي قدر من احترام النفس!! فمن يتمسك، ولو بالحد الأدنى لاحترام الذات، سيكون لانتهازيته سقفا، ربما يعوق وصوله إلى ما يطمح، أو يحد من قدرته على إرضاء السادة، من الشياطين الذين باع روحه لهم!!
أما من اختار ـ بوعي ـ الانتماء لمهنة، يؤمن أنها رسالة، واهبا حياته لإعلاء قيم الحق، والحرية، والعدل؛ فسيكون مسلحا بالقدر الكافي من الوعي والثقافة والكفاءة المهنية، فضلا عن إدراكه مدى صعوبة اختياره.. ولكل امرؤ أن يختار ما يليق به، وعلى كلٍ أن يدفع ثمن اختياره.. البعض لا يمانع من أن يدفع كرامته واحترامه لذاته، ثمنا مقابل ثراء أو منصب، أو قرب من السلطة؛ وآخرون يؤمنون أن الحياة بلا كرامة ليس حياة، وأن كل شيء يهون في سبيل الحرية!! هي.. اختيارات!!
ولعل الكثيرين لا يدركون مدى ما يكابده الحالمون بالعمل في بلاط صاحبة الجلالة ـ من دون أن يكون لهم واسطة ـ حتى ينالوا "كارنيه النقابة" الذي يؤكد احترافهم للمهنة!! فربما يعمل الشاب سنوات عديدة، من دون تعيين، مقابل جنيهات هزيلة شهريا ـ لا توازي ثمن وجبة سريعة يتناولها رئيس التحرير ـ وقد لا تكفي مواصلاته من، وإلى الجريدة! فقط، كي يكتسب الخبرة ويمارس المهنة التي يحبها!! وربما تمضي السنوات، قبل أن يحظى بشرف التعيين، ويظل سيف الفصل مسلطا على رقبته، خاصا لو كان يعمل في صحيفة خاصة ـ وما أدراك ما الصحف الخاصة! ـ ثم ما يعانيه من تعنت واضطهاد، إذا كان ممن يحترمون أنفسهم، ولا ينخرطون في "شلة" تطبل لرئيس التحرير، فلا يتزلف لرجال الأعمال أصحاب الصحف، أو يقدم فروض الطاعة على حساب المبادئ!!
وعلى مر العصور، دفع الكثيرون ممن اختاروا رسالة التنوير والتغيير، أثمانا باهظة، واستمروا يغرسون بذورا، يعلمون أنهم لن يذوقوا ثمارها، ويحرثون الأرض، ويروونها عرقا ودما وتضحيات، أملا في أن يذوق أبناءهم وأحفادهم حلاوتها. مكتفين بأن جعلوا لحياتهم معنى وهدفا نبيلا، مؤمنين أن تضحياتهم وكتاباتهم لن تضيع سدى!
غير أن أحرار مهنتنا يواجهون اليوم، ما هو أغبى وأحط من مجرد التنكيل بالمعارضين، وقمعهم واعتقالهم.. فما نشهده لا يمكن وصفه إلا بكونه "فجر في الخصومة"، لا سقف له في الابتذال!! فلم يكتف النظام بإلقاء القبض على صحفيين، يمارسون مهنتهم، بما تقتضيه من كفاءة ونزاهة؛ وتلفيق تهم ـ لا تثبت غالبا عليهم ـ وإنما يضرب عرض الحائط، بقوانين وضعها رجال هذه السلطة بأنفسهم، عبر احتجازهم في ظروف ليست آدمية بالمرة، وحرمان المرضى منهم من العلاج، والتفنن في إهانة ذويهم عند زيارتهم، إن سُمح لهم بالزيارة أصلا!!ـ على نحو صار فيه المجرمون الجنائيون، يشعرون أنهم أكثر تميزا واحتراما، من أصحاب الرأي!!
لذلك، لم يكن غريبا أن تأتي مصر في الترتيب الثانى من بين الدول العشر الأكثر حبساً للصحفيين للعام الماضي، لا يسبقها إلا الصين!! وعلى حد قول لجنة حماية الصحفيين الدولية "تواصل الحكومة المصرية استخدام ذريعة الأمن القومي لقمع المعارضين"!! وكما أكدت منظمة العفو الدولية: "قامت السلطات باعتقال الصحفيين المرتبطين بالمعارضة، وأولئك الذين وجهوا سهام النقد لها، واحتجزتهم على خلفية تهم ملفقة من قبيل بث أخبار أو معلومات أو شائعات كاذبة"!! وربما نجح إعلام السلطة ـ حتى الآن ـ في تشويه المعارضين، والتشكيك في وطنيتهم، لدى بعض البسطاء في الداخل.. إلا أن مثل هذه التقارير الدولية، تحظى باحترام ومصداقية أمام الرأي العام الدولي، وترسم صورة لمصر في الخارج، لا يمكن أن ترضى من يعتقدون أن المعارضين هم من يسيئون إلى صورة مصر أمام أعين العالم!
فكيف تفسرون أمام ضمير العالم ـ مثلا ـ اعتقال المصور الصحفي محمود أبو زيد "شوكان"، الذي قارب الثلاثة أعوام من دون تهمة أو إحالة للمحاكمة، تعرض فيها للضرب والتعذيب، وحرمانه من العلاج الملائم رغم إصابته بفيروس الكبد سي؟ ومن الذي يعوض المصور الصحفي أحمد جمال زيادة ـ الذي أمضى في السجن أكثر من 500 يوم تعرض فيها للتعذيب والتنكيل أيضا، ثم صدر حكم المحكمة بتبرئته من التهم الملفقة له!! ـ عن كل ما عاناه من ظلم؟
ولعله من المضحك المبكي، أن يلقى القبض على أحمد سامح مدير إذاعة "حريتنا"، التي تُبث عبر الإنترنت، ويخضع للاستجواب لدى قوات الأمن والنيابة العامة حول طريقة انتقاء موضوعات البث وانتماءاته السياسية.. ثم تأمر النيابة بالإفراج عنه بكفالة قدرها ألفي جنيه، مع تحويله لتحقيقات جنائية بشأن اتهامه بحيازة نسخة غير أصلية من نظام التشغيل "ويندوز" !!! ومن الواجب هنا أن نتساءل عن نسبة من يحوذون نسخا "أصلية" من ويندوز في مصر!
وكيف يمكن أن يحترم العالم نظاما، يقرر فجأة ومن دون أي مقدمات، التنازل عن جزيرتين من أرضه، وعندما يعترض الوطنيون ـ بحق ـ يتهمون بالخيانة!! ويتم التنكيل بهم، ثم يقدم النظام طعنا في حكم قضائي يعيد الجزيرتين لأرض الوطن! ويكون في صدارة من يتعرضون للتنكيل الصحفيان عمرو بدر ـ مؤسس بوابة "يناير" الذي اختار لها شعارا كاشفا "صحافة مش خوافة"!! ـ ومحمود السقا الصحفي في نفس الموقع، المسجونان منذ أكثر من مائة يوم بتهمة سخيفة ومبتذلة "نشر شائعات كاذبة"!! ويعلم كثيرون أن الشابين كانا من أوائل مؤسسي مجموعة تمرد، التي ـ ويا للمفارقة ـ كانت من أهم أسباب وصول النظام الحالي للحكم!! فقد رفض الصحفيان الشابان نظام المبايعة على السمع والطاعة، وساهما في إسقاط نظام حكم المرشد، ليجدا نفسيهما محاصرين من نظام "التفويض"، على السمع والطاعة أيضا! الذي لا يعترف بحرية الرأي، ولا الصحافة!..
لكنها ـ كما قلنا ـ اختيارات!! وكان اختيار شوكان، وعمرو بدر، ومحمود السقا، ويوسف شعبان وغيرهم، واضحا من البداية "صحافة مش خوافة".. وليس هذا الخيار قاصرا على الأحرار من أصحاب مهنة القلم وحدهم!! لكنه اختيار كل من اختاروا حياة الحرية، ولفظوا حياة العبيد.. يؤكده إصرار من جربوا محنة السجن على مواصلة النضال "عمر السجن ما غير فكرة.. عمر القهر ما أخر بكره"!