
لا تصالح.. شرح ما كان بديهيًا !
إكرام يوسف
لا تصالح.. شرح ما كان بديهيًا !
درسنا في مادة الرأي العام والإعلام، كيفية تحويل اتجاهات الرأي العام من النقيض إلى النقيض.. وهي آليات لم تعد مجهولة على أي قارئ غير متخصص في العلوم السياسية، أو مهتم بعلم نفس الشعوب!
وتعلمنا كيف تعمل القوى الكبرى بإعلامها ـ الذي تسيره أجهزة مخابراتها ـ بصبر ودأب قد يستغرق عشرات السنين لدفع غالبية شعب ما إلى تقبل، وربما تبني، فكرة كانت محل ازدراء ونفور في فترة زمنية سابقة!
وتتلخص الآلية في عدة خطوات..
أولها السماح بكل وسائل التعبير عن النفور وازدراء الفكرة بشكل مكثف، بحيث تتعود الأذن والنفس على سماع الرمز أو الاسم، حتى ولو مقرونا بالازدراء! حتى يتم التنفيس عن مشاعر النفور السلبية إلى أقصى حد.
ثم تبدأ الخطوة التالية، وهي البدء من حين لآخر في استخدام الاسم أو رمز هذه الفكرة بشكل محايد ـ ولو عرضا في سياق الكلام ـ المهم أن يستمر تعود الناس على سماع الاسم أو الرمز أو تتعود أعينهم على رؤية ما يمثله من رسوم أو صور أو أفلام.
ثم تأتي الخطوة الثالثة، وهي تغلغل بعض أشكال الترويج المخففة وغير الملحوظة للفكرة أو الرمز، مع استمرار نقدها ـ بصورة يتزايد تخفيفها من وقت لآخر ـ وشيئا فشيئا، تتزايد بجرعات محسوبة أساليب الترويج والدعاية والتحبيب في الفكرة، إلى أن نصل ربما بعد أجيال إلى تبني الفكرة تماما واعتناقها!!
وكتبت أكثر من مرة، أذكر فيها بأننا من جيل كان لا يستطيع نطق اسم دولة معادية، فكنا نقول ـ مثلما يقول الإعلام الرسمي ومنابر الثقافة ودور التعليم في الستينيات ـ الكيان الصهيوني، أو الدولة المزعومة! وكان العداء للصهيونية سمة تغلغلت في وجداننا مع الفصل الكامل بين معاداتنا للفكرة الصهيونية والصهاينة الذين احتلوا أرض فلسطين، وخضنا ضدهم حروبا ـ سالت فيها دماء آبائنا وأخواتنا ـ وبين اليهود أصحاب ديانة سماوية نحترمها ونجلها، وينتمي إليها شركاء لنا في الوطن، وكثيرون في العالم ممن يدافعون عن حقنا السليب، ويناهضون قيام الدولة الصهيونية.
ظل هذا اليقين قائما وثابتا، تلخصه عبارة العظيم أمل دنقل "لا تصالح"! لا يحتاج شرحا أو تبريرا، لمن يعرفون كيف نجحت وكالة الصهيونية العالمية في جلب أغراب من مختلف بلاد العالم، لاغتصاب أرض فلسطين وطرد أبنائها وتشريدهم من بيوتهم فيحتلها هؤلاء المغتصبون الأغراب! لم يكن رفض التصالح والإصرار على تحرير كامل التراب الفلسطيني وعودة أبناء الأرض السليبة، بحاجة إلى تبرير! فالحق كما يقولون أبلج ولا يحتاج توضيحا، والعائلات الفلسطينية تحتفظ ـ حتى الآن ـ بمفاتيح دورهم التي يحلمون بالعودة إليها مهما طال الزمان؛ ودماء شهدائنا البواسل مازالت تطالب بالثأر.
ولم يكن الحلم بعيدا كما يعتقد البعض، فدرس جنوب أفريقيا التي احتلتها الأقلية البيضاء، ونجاح المقاومة والدول المحبة للحرية والسلام، في دفع المجتمع الدولي إلى فرض العقوبات على دولة التمييز العنصري، حتى تحرير مانديلا، وتخليص بلاده من وصمة التمييز العنصري، ونجاح التعايش بين جيل البيض الذي ولد على أرض جنوب أفريقيا ولا يعرف له وطنا غيره، وبين السكان السود الأصليين في دولة واحدة تسودها المساوة على أساس المواطنة؛ ظل ماثلا أمامنا نحلم بتحقيقه على أرض فلسطين، ونرد به على كل من يتنطعون بالحجة السخيفة "وما ذنب اليهود من الجيل الثالث الذين ولدوا على أرض فلسطين ولا يعرفون لهم وطنا غيرها؟" كنا قول بيقين، عليهم أن يقبلوا العيش في "دولة فلسطين" الواحدة من البحر إلى النهر، دولة ديمقراطية مدنية علمانية، يعيش فيها أصحاب الديانات المختلفة، على أساس المساواة في المواطنة!
إلى أن جاءت كامب ديفيد المشئومة، وما تلاها من محاولات التعامل مع الكيان الصهيوني باعتباره دولة نعترف بها وأقصى ما نحلم به "حل الدولتين"، إن سمح الصهاينة، الذين أسموا الكيان الذي أنشأوه على أنقاض فلسطين "إسرائيل ـ الدولة اليهودية" في وثائقهم الرسمية! وصار علينا رسميا أن نقبل برفع علم هذه الدولة التي صار بينها وبين النظام الرسمي لدينا علاقات دبلوماسي، على أرضنا، رغم أن هذا العلم يؤكد بوضوح على حلم "دولة إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل" ويصور نهري الفرات والنيل تتمدد بينهما نجمة داوود! غير أن جميع مساعي التطبيع الدبلوماسي والرسمي، واتفاقية الكويز وغيرها، لم تنجح في اختراق حاجز الرفض الشعبي للتعامل مع الصهاينة، رغم كل الجهود التي بذلها النظام، بداية من استضافة جناح إسرائيلي في معرض القاهرة الدولي للكتاب، الذي كان يقابل كل عام بمظاهرات عارمة، نجحت في إلغائه! ومحاولات دفع صهاينة للمشاركة في مؤتمرات علمية، تعقد على أرض مصر، وما واجهته من رفض قاطع لأساتذة الجامعة المصريين من غير المأجورين للنظام، وصولا إلى محاولات دفع الشباب المصري الرياضي إلى الدخول في منافسات رياضية مع رياضيين صهاينة!
دار في ذهني كل ما سبق، وأنا أقرأ خبر مشاركة شاب مصري في مباراة لرياضة الجودو مع رياضي صهيوني ضمن أوليمبياد ريو دي جانيرو. ولم يشغلني التبريرات الرسمية لهذه الجريمة ـ فهذا ما دأب عليه النظام الرسمي منذ كامب ديفيد وحتى الحديث عن السلام الدافئ وتوسيع كامب ديفيد لتشمل عددا أكبر من الدول العربية! - لكن ما أفزعني حقا، هو تقبل مصريين، ممن لا يمكن التشكيك في مشاعرهم الوطنية، لهذه الجريمة، وصار كل ما يهمهم هو أن ندعو للشاب المصري كي يفوز على الصهيوني! ورفض بعضهم الدعوة للانسحاب بأنها ستعني خسارة المباراة أمام الصهاينة وهذا ما لن يقبلوه! وأخذ البعض يدعو الله ليفوز الشاب المصري في المباراة!
هكذا!! يحقق الصهاينة ما عاشوا عشرات السنين يحلمون به؛ التطبيع الشعبي مع المصريين، لتذوب القضية الفلسطينية ويضيع الحق الى الأبد! ميدان الرياضة ـ يا سادة ـ ليس ميدانا للقتال، وإنما هي مجال من مجالات تمتين مشاعر الصداقة والمودة بين الشعوب! هل تتخيل أن يدخل ابنك المباراة مع شاب قتل أبوه عمك، وطرد أبناءه من بيتهم ليقيم فيه ويربي هذا الشاب الذي "سيلعب" مع ابنك؟ أن يدخل ابنك المباراة فيتبادل معه الانحناء والسلام الودي، وتنتهي المباراة بتبادل الانحناء والسلام الودي، ويتمنى المهزوم للفائز حظا سعيدا!! هكذا، ودم أهلكم مازال يلطخ أيدي الصهيوني وأهله؟!
لقد نجح الإعلام المأجور في غسل أمخاخ البعض للأسف، حتى أنهم يدافعون عن علاقات طبيعية مع الصهاينة بأمل أن يهزمونهم في مبارة!! وماذا عن الأرض؟ ماذا عن الدم؟ وماذا عن الحق؟ الأمور تبدأ هكذا، يتبادل الشابان التحية، ويتمنى المهزوم للفائز حظا سعيدا بمنتهى الروح الرياضية ـ وفي هذه الحالة ربما لا يمانع الصهاينة في أن يتعمدوا الهزيمة حتى تتمايلون رقصا ونشوة بالفوز في مباراة رياضية بينما هم مستمرون في بناء المستوطنات على جثث أخوتكم ـ وتنشأ في هذه المباريات علاقات الاعتياد والتألف، إن لم تكن الصداقات ـ وأغلبها سيكون مخطط له ـ بين المشجعين من الطرفين!
وهكذا، ظهر جيل لا يمانع في نطق اسم دولة العدو كما قررته، ثم بعد تمنع يخفت قليلا قليلا، يصير التعامل التجاري أمرا مقبولا وعاديا، وتصبح السلع الصهيونية مقبولة في متاجرنا، ومعها يتقبل المصريون شيئا فشيئا منافسات رياضية، يرفع فيها العلم الذي يؤكد أننا مستهدفون بالاحتلال، ومثلها مهرجانات فنية.
أدعو الله ألا يحييني إلى أن يأتي اليوم الذي نجد فيه لاعبا مصريا يدخل الأولمبياد وهو يحمل العمل الصهيوني، بأي ذريعة، ولو على سبيل الخطأ أولا، ثم بفعل الاعتياد يصبح الأمر مألوفا.. لا قدر الله.. لا قدر الله.. لا قدر الله.. ولا سمح شعب مصر الحر! علموا أبناءكم أن الكيان الصهيوني هو العدو الحقيقي، وأن فلسطين ستبقى عربية!