ليالٍ جبنتُ فيها (7)
إسلام ثابت
ليالٍ جبنتُ فيها (7)
صباح الاثنين الموافق 8 من يوليو الحالي صرتُ أشعر بروح غريبة تلف شوارع القاهرة والجيزة حيث تنقلت مع صديقي أستاذ الجامعة وزوجته، رويتُ عنهما في سابق المقالات، وللحقيقة فقد آثرتْ الأخيرة العودة للساحة المقابلة للحرس الجمهوري في نفس اليوم المطلق فيه قنبلة غاز على أعلى ظهرها، سائق سيارة الأجرة لم يبد معجباً بتجمعنا الصغير بل راح ينظر إلينا النظرة المعهودة بين العامة لكل من يثور سواء أكان على حق أم لم يكن، وزاد حينما حاول سائق آخر الاشارة له بالازدحام في الشارع الذي سنسير فيه فقال له:
ـ هي كلها مثل بعضها هنا وهناك..
شىء مؤسف الشعور بأن جزءً من شعبنا لا يقف حتى على الحياد تجاه احداث بالغة المرارة تدور رحاها في مصر، بل قتل الساجدين في سابقة لا فعلها كفار قريش مع الرسول، صلى الله عليه وسلم، والمسلمين على مدار 13عاماً هم مدة الدعوة السرية الاستضعاف في مكة آنذاك، ولم يفعلها مستعمر غازٍ ولا حتى اليهود فحادث المسجد الإبراهيمي في القدس كان حادثاً فردياً من يهودي، من بعد سمعت كلمات من باب:(يستحقون) على شفاه عدة، وكنتُ أذوب من نفسي خجلاً عندها: أهؤلاء بشر؟
كان الطريق لميدان النهضة بالجيزة محفوفاً بالمخاطر؛ وأنزلنا السائق على الكورنيش قرب شارع النيل لنجد الدبابات رابطة في الطريق، أما عن ميدان رابعة فكانت الاشاعات تقول بأنه مغلق تماماً ومحاط بالجيش تمهيداً لما لا تحمد عقباه، وكان صديقي بالغ الحرص ألا نسير معاً، وبعد معاناة وصلنا إلى النهضة في أجواء حرارة عالية تناسب ظهر يوم من شهر يوليو، وهناك علمنا أن رابعة كلها بخير، فخرجنا من أمام حديقة الحيوان، والعجيب بل لعله المنتظر في مثل هذه الأجواء أنه ما من سائق تاكسي قبل الوقوف لنا بخاصة مع حجاب زوجتي وزوجته، وكان أن أشرنا لتاكسي فلم يقف ثم وقف على بعد أمتار لمجموعة من الشباب فيهم فتاتان، وكان الحل ان نعود أدراجنا لحي شهير منه سيارة (ميكروباص) تسير مباشرة لميدان رابعة، ولم يكن خافياً على واحد منا أن الناس في الشوارع تصدق ما يسوقه الإعلام من كذب مفضوح، اللهم إلا من رحم ربي..
فور وصولنا للميدان اختلف المشهد كلياً وجدنا الأهازيج من اللجان المكلفة بالأمن: (مرحب مرحب بالثوار، مرحب لامرحب بالأبطال، مرحب مرحب بالشرفاء..) معنويات عالية تحلق في السماء، وكلمات البسطاء هناك كانت معبرة:(نحن لا نتظر إلا هذا المصير، نالوها وافتقدناها) أما الأعجب فمسيرات الشباب الصغير، جذوة ثورة 25 من يناير المنتشرة تهتف:(الثورة لسه في الميدان)، لقد نجح مدبرو ومنفذو المذبحة في التنكيل بأنفسهم وحشد الشباب الطاهر الشريف النقي ممن لا يمثلون الإخوان بل قد لا يتفقون معهم لميدان رابعة، وأذكر أني بعدها بيومين:(الخميس 2 من رمضان) اضطرتني الجموع إلى صلاة التراويح قرب رصيف من أرصفة الشارع فيما كان مجموعة من الشباب يمزحون ويتبادلون القفشات وفيه فتيات فيما كان أحد المقربين مكانياً لي يدخن في شرهة، وعقب الصلاة اعتذر لي بشدة فقلتُ له بل إني سعيد بوجودك وأتمنى ألا تغيب عنا، بعدها بليال ألتف عدد أكبر من الشباب في الميدان في تجمعات صغيرة بل لم يعد من الغريب أن أجدهم أثناء رحلة العودة في ساعة متأخرة من المساء يرددون أهازيج الألتراس المميزة ضد رجال الشرطة بالتحديد غير عابئين بنظرات الناس المستغربة..
العواطف الجياشة تلف الجميع والبكاء لا تكف عنه الأعين بخاصة لما كانت تعرض ملابس الشهداء رغم ندرة ذلك، اما خطاب المنصة فكان بالغ التحضر، إنهم يفقدون سندهم الشرعي فلا تعولوا على ما يفعلون وكلنا هنا مشاريع للشهادة، وسنصوم رمضان في الميدان، وهي فرصة نادرة للاتحاد وتجمع المصريين كلهم..
ومع المساء برزت طائفة من أساتذة الجامعات بخاصة في المجالات العلمية، ولم يكن عجيباً أن أسمع أحدهم يقول للآخر: إنني من حزب الكنبة ولكن لو استمر الأمر على هذا النحو فلسوف يطول حتى الكنبة..، معدن المصري الصادق النبيل بدأ يبدو على نحو فريد، وفيما كان الميدان يستعد لصلاة التهجد كان تغيير تكتيكي ينسج في الغيب لصورته النهائية..
