
إعلام الثورة: تنويعات على طيّ مرحلة وافتتاح مرحلة أخرى
عبدالله أمين الحلاق
إعلام الثورة: تنويعات على طيّ مرحلة وافتتاح مرحلة أخرى
"(اذا قررتَ احتراف الصحافة في سوريا.. كن جباناً ولا تخف). هذه كانت النصيحة الأولى التي تلقيتها عندما قررت ان أشق طريقي في الحياة كصحفي و كنت لا ازال طالبا في سنتي الجامعية الثانية ".
الكلام هنا لمازن درويش، مدير المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، والمعتقل منذ أكثر من عامين في سجون النظام السوري، والكلام هنا مقتطف من التقرير الذي أعده المركز المذكور عام 2006 عن حالة الإعلام والحريات الصحفية في سوريا. والحال، أن ضرورة أن يكون الصحفي جباناً تبدو مسألة أمر واقع في سوريا، حفاظاً على رأس هذا الصحفي وليس حفاظاً على قلمه، وهي مسألة أخذت من الوقت سنوات لتحويلها من استثناء إلى قاعدة بعد وصول حزب البعث إلى السلطة. هذا الحزب جعل من صمت الأقلام عن الواقع المرير دينه وديدَنه ونجح بالترهيب والترغيب واحتكار المنابر، في جعل سوريا بلا صحفيين حقيقيين إلا من آثر ان ينشر في صحف غير سورية من مكانه، داخل سوريا أو خارجها.
اختلف الحال طبعاً بعد بدء الثورة السورية، ورغم أن النظام السوري بدا متعنتاً ورافضاً لأي تنازل يقدمه إلى الشعب السوري في بداية الاحتجاجات على طريق المصالحة وتلبية حاجات هذا الشعب ومطالبه، فإنه قدم بعض التنازلات التي بدت شكلية لا تعني شيئاً، إلا أنها تدل على الإدقاع والحجب والمنع الذي أنزله البعث وآل الأسد بالسوريين. كانت تلك التنازلات الشكلية دلالة على حجم ونوعية ما كان يفتقده السوريون طوال نصف قرن من الزمن المحنط بعثياً.
إلا أن السوريين، ومن دون ان ينتظروا "مكرمات وعطاءات ومراسيم إصلاحية" من بشار الأسد، رأس النظام ورأس الكارثة في بلدهم، عملوا بدأب منذ بداية الثورة في آذار 2011 على توسيع كوة الضوء التي حفرها أهل درعا في جدار نظام الاستبداد، وصارت لهم وسائلهم الخاصة للخبر وإيصال المعلومة بدءاً من الهواتف النقالة والمحمولة، البدائية أو الاحترافية، وصولاً إلى منابر تلفزيونية سورية مختصة بتغطية أخبار السوريين وثورتهم، ومعها صحف ومجلات عرفت باسم "الإعلام البديل السوري"، كنايةً عن أن إعلام النظام الرسمي لم يعد ينفع، هذا إن كان له نفع أو فائدة ذات يوم أساساً، فكان لا بد للسوريين أن يبتكروا منابرهم ووسائل إعلامهم الخاصة التي تعبر عن ثورتهم وعن توقهم للحرية، ولا تعبر عن تحنيط الزمن السوري على لحظة الأبد الذي ابتدأها حافظ الأسد عام 1970، وأكملها ابنه بشار عام 2000 وحتى اليوم، بتغطية إعلامية وانبطاح من وسائل إعلام بعثية وصحف رسمية ثلاث لا تخالف واحدتها الأخرى إلا بالعبارة وليس بالمضمون الذي يفتَتح باستقبالات "السيد الرئيس"، ولا ينتهي مع إنجازاته وعطاءاته من افتتاح قنوات الصرف الصحي إلى غزو الفضاء .
لكن الإعلام البديل الذي ولد مع الثورة السورية لم يتطور معها كثيراً، وبقي محافظاً على لغة ثابتة وخاصة في محطات التلفزة المعارضة للنظام والداعمة للثورة، مثل محطات "سوريا الشعب و أورينت نيوز وغير ذلك"، وبدت الصحافة المكتوبة أكثر مرونة وقدرة على تطوير نفسها وخطابها الذي لا يتعلق بإدارة التحرير وقرارها وعلاقتها بالصحافة بقدر ما يتعلق بالكتّاب الذين يكتبون ويملؤون صفحاتها بكتابات مختلفة ومتنوعة، منها الغث ومنها السمين، وهو تنوع في الكتابات والمستوى يشبه تنوع مستوى صحف الإعلام البديل الكثيرة التي يبدو بعض محرريها ومالكيها ممن لا علاقة بهم بالصحافة إلا بالحصول على تمويل وبركوب الموجة التي بدأت بعد الثورة السورية، وبالانفتاح الإعلامي الرائع والموضوعي الذي حصل.
خارج ذلك، تبقى مقولة مازن درويش السابقة أقل راهنية اليوم في الثورة وظروفها الصعبة، رغم وجود بعض الخطوط الحمراء لدى بعض وسائل الإعلام داخل الثورة مثل المساس بالجيش الحر ونقده وانتقاد بعض فصائل المعارضة، وأقول بعض الخطوط الحمراء في بعض وسائل الإعلام، ورغم سقوط الكثير من الإعلاميين والصحفيين على يد الفصائل المتحاربة في سوريا وعلى رأسها النظام السوري، وهذه مخاوف قد تدفع البعض من الصحفيين والكتّاب داخل سوريا إلى الصمت والخوف وإلى أن يكونوا "جبناء !" إزاء ما يحصل، إلا أن كثيرين منهم يبدون أكثر قدرة على مقارعة الصعوبات والمخاطر واختراقها بكاميراتهم وهواتفهم النقالة وآلامهم وشهاداتهم التي سيكون بعضها علامة فارقة لكوادر صحفية وفكرية وإعلامية وثقافية جديدة للمستقبل، وعلى زمن سوري لم يعد يرضى باللون الواحد في السياسة والفكر والصحافة ووسائل الإعلام، مهما كانت الأكلاف.