
إلى أي وطن ننحاز؟
أحمد تايلور
إلى أي وطن ننحاز؟
يظهر بصوته الجهوري في البرومو الدعائي لبرنامجه قائلاً: "لسنا محايدين.. ننحاز للوطن ضد أعداء الوطن.. ننحاز لدولة القانون والمؤسسات ضد العصابات والتنظيمات.. ننحاز للقوات المسلحة ضد العصابات المسلحة.. كونوا منحازين للوطن".
إذا اكتفيت بمشاهدة هذا البرومو الصغير، بالتأكيد لن تختلط عليك المفاهيم، فالوطن لا يتساوى مع أعدائه، وشتان بين دولة القانون والعصابات، لكنك إن غامرت بقولونك العصبي ومرارتك وقررت مشاهدة حلقة واحدة من البرنامج، ستختلط عليك فطرتك قبل أن يختلط عليك ما تفرضه حقائق العقل والمنطق.
حدثنا أحد أهم تلامذة العلامة أستاذ العلوم السياسية حامد ربيع، رحمة الله عليه، عن أن الأستاذ قبل أن يجيب أسئلة طلبته كان يسألهم أولاً عن "مفهومهم" أو "مقصدهم" حتى يتمكن من الإجابة.
يتحدث الجميع عن "الوطن"، هذا يقصي الآخرين باسمه، وذاك يعارض باسمه، وآخر يتوسع في البطش بالناس لأجله، وما سبق لا يحدث إلا في الأقاليم التي لا يتحكم في سياسات حاكمها دستور ولا يحكم علاقات مكوناتها وأطرافها عقد اجتماعي.
الشعارات الفضفاضة التي تغازل المشاعر وتدغدغ عاطفة البسطاء مثل "تحيا مصر –وطني الأكبر" غالبًا ما تنتهي إلى إقصاء المخالفين للنظام، وتعليق رقابهم على المشانق، وخنق المجال العام، والعصف بالحقوق والحريات، وحرق أفكار المعارضين، وسفك دماء الناس في الشوارع جهارًا نهارًا ولأن المستهدف "مصر" يصبح كل ما سبق قرابين للوطن المنشود، لكننا نعلم أن هذه السياسات القمعية شهادة وفاته إما بحرب أهلية أو غزو خارجي، وتصبح النكسة أقل خسائره.
الأذرع الإعلامية للعسكر، التي تنتظر يوميًا تعليمات عباس كامل تنزعج من شكوى الناس المستمرة من تكرار قطع الكهرباء صيفًا وشتاءً وتعايرهم بوقوف القوات المسلحة معهم ضد الإخوان في 30 يونيو، أحدهم تناسى أنه أكثر مندوبي الشئون المعنوية استخدامًا لورقة الكهرباء في تقليب الناس على مرسي في أيامه الأخيرة، وعندما سأله أحد ضيوفه ذات مرة عن سبب ذلك التحول الرهيب، أخبره بالسر.. إنه "الوطن" الذي كان يُدار من قبل "عصابة مسلحة"، لكن الآن تديره "القوات المسلحة".
حسنًا.. سنخبر الناس بأن الواجب الوطني يحتم عليهم أن يكونوا أكثر حكمة وأقل غضبًا تجاه خدمات النظام المنعدمة.. فالوطن تحكمه "قوات مسلحة"! وعلى رأي حسن كامي في فيلم حمص وحلاوة "أنا وطني وطني وبطنطن..وأتباهى بمجدك يا وطنطن".
يدعي كثير من مطبلاتية النظام أن معارضيه لا يقصدون إزاحة شرعية رئيس منتخب من السلطة فحسب (واخد بالك من موضوع الشرعية والرئيس المنتخب دا) بل الإطاحة بمقدرات الوطن كله، على أن بعض رجال الدين المتمترسين خلف النظام أضافوا لنا أنهم يخالفون شرع الله أيضًا.. يا حلاوة: معارضة النظام تمثل مخالفة للوطن والدين.. الاثنين!
خلي بالك إن مصر كانت تُحكم من قِبل جماعات مسلحة تختطف الوطن باسم الدين!
هؤلاء المتنطعين خلف صفوف النظام ويتهمون كل من يُبدي رأيًا مخالفًا للنظام بممارسة العنف والارهاب، إذا أطاح النظام بمميزاتهم غير المنصوص عليها في الدستور، والذين يحصلون عليها بموجب تعريضهم له، لن يكتفوا باستخدام العنف فقط، ولكن سيحولون مصر إلى قطع رماد، هذا إن لم تسمح أرصدتهم في الخارج - التي تراكمت على قفا الوطن والناس - لهم بالعيش الرغيد.
الوطنية التي تنبني على العنف ليست بوطنية، فالوطن ذاته في خطر داهم إذا أضحى العنف وسيلة التعبير الوحيدة والمتاحة.
سأنتهي من حيث بدأ إعلامي العسكر المدلل، ولكل شخص مفاهيمه، "نعم.. لسنا محايدين.. ننحاز للوطن ضد أعداء الوطن.. ننحاز لدولة القانون والمؤسسات ضد العصابات والتنظيمات.. ننحاز للقوات المسلحة ضد العصابات المسلحة.. كونوا منحازين للوطن".
لكن ثمة اختلاف جذري في تصور الجملة السابقة، فالذين يدعون انحيازهم للوطن لا ينحازون إلا لأعدائه، والذين يحملون المباخر ويمسكون الصاجات مدعين أنهم يطبلون لرجال الوطن هم خدمة العصابات المسلحة.
كل واحد يفهمها بطريقته، وحسب علامه، وإدراكه، ومصالحه، وفطرته.