
ليالٍ جبنتُ فيها (10)
إسلام ثابت
ليالٍ جبنتُ فيها (10)
أنقل هنا ما يسعف الذاكرة من احداث بالغة المرارة تمر بها مصر، وللحقيقة فإنما هم يحيون المصريين في أحداث نادرة الحدوث لا أود القول كابوساً، وإنما هم بادروا بفعل كل ما يخالف العقل والتفكير الآدمي وتراكم على مدار آلاف السنين، وكأنما شريعة الغاب بعثت وفي مصر رمز الحضارة وحاضنة الإسلام، على أن للأمر وجهاً حسناً هو كشفههم عن نواياهم الدفينة، ولا أريد الوصف أكثر، ولكن حسنة الأمر: أن تكون مواجهتهم مرة واحدة، فإن قدر الله نصر بلدي في هذه المحنة هانت بعد حين قليل بقية المحن، وإن لم يقدر، حاشا له تعالى، فأمر ما بدا له، عز وجل، واللهم إنا لا نسألك رد القضاء، ولكنا نسألك اللطف فيه.
في الميادين حيث خرجتُ وما زلتُ أخرج، أشعر بوضوح بأن الغيبي من الأمور، ولا أقول المجهول، أكثر من المعلن، بالنسبة لي، وبالتالي أخشى ألا أكون ناقلاً لكل التفاصيل المهمة، وما يؤلمني ويحز في نفسي أني عاشرتُ قبيل مذبحة الساجدين قرب الحرس الجمهوري شرفاء وشريفات من كبار وصغار لا أعرف من منهم غادر الحياة لرب العزة ومن بقي؟ وكم من الأبطال في الميداين استشهدوا ولم أكتب عنهم، لما استعرض ل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عدد الشهداء وأسمائهم عقب إحدى الحروب الكبرى قالوا:واستشهد كثيرون لا نعرفهم يا أمير المؤمنين، فقال على الفور فيما هو يبكي:(وما ضرهم لو لم يعرفهم عمر) ومع فارق التشبيه، ما ضرهم لو لم يعرفهم مثلي، ولكنها الأمانة الثقيلة.
من هؤلاء الذين لا اعرف أين ذهبوا رجل قارب الخمسين من العمر، يبدو أنه من الأقاليم، كان يقف أمام الجيش أو عدد منهم بالعشرات أمام التجمع الكامن بقرب ميدان رابعة يوم الجمعة التالي على خطف الدكتور مرسي، قبل صلاة الجمعة، يرتدي جلباباً تحته صديري، وبيده مصحف، يصرخ لما رأى عشرات الشباب قادم تجاه الميدان:
ـ شد يا سيسي.. الشعب جايلك يا سيسي ..استحمل ياسيسي..
آلمني ضميري وأنا أراه بلحيته الخفيفة، وصدره العاري، وإشارات يديه وكأنه يسحب شبكة في بحر، فيما يقول (شد يا سيسي) فيما ليس بينه وبين جنود الجيش أكثر من خمسة عشر متراً على الأكثر، فيما صوته يجلجل في حرارة الشمس غير المتحملة، موقف اسطوري دفعني للاقتراب منه:
ـ لم تقف بفردك هنا من فضلك تعال للداخل معي..
كأنما عاجلتُه بالانصراف عن عالمه بغتة، نظر إلي ملياً ثم قال لي:
ـ معلهش يا باشمهندس أصلي عاوز أموت شهيد هنا بس أوصل صوتي..
ـ دول مش هيوصلوه دول بينفذوا اوامر تعال معي للداخل..
ـ قلتلك عاوز أموت هنا..
ـ استشهد بس وسط الجمع نعرف نتعامل مع الموقف..
ـ معلهش أدخل إحنا مش هنتفق مع بعض ..
قالها فيما هو يمضي في وجوه الجنود والضباط صائحاً من جديد:
ـ شد حيلك ياسيسي جالك الشعب يا ...
كم من مثيل لهذا الرجل في الميادين الآن أرجو رحمة الله تعالى لهم..
وفي الميادين بخاصة رابعة تفاصيل كيرة تستوجب التوقف الكويل منها: أصحاب المحال التجارية، النساء المعتصمات، الطائرات الحربية فوق الرؤوس، بيانات الجيش، دورات المياه، سيارات الإمداد والإعاشة، الأطفال والرضع، الفقراء والبسطاء، وروحانيات الميادين بخاصة رابعة العدوية ليت شعري هل يستطيع قلمي استيعاب هذا كله؟
يوم الجمعة الثالث من رمضان كان ميدان رابعة على موعد مع مليونية جديد، وكانت محاولة التغلب على التكتيم الإعلامي الشديد على أشدها، لكن ليل الجمعة حمل لي مفآجأة شديدة لما أعلن الدكتور صفوت حجازي عن تحرك مسيرة مليونية للقصر الجمهوري للاعتصام هناك، قبلها بأيام كان الإخوان يحاولون دون نجاح السيطرة على ميدان التحرير، حاول عقلي استيعاب التطور والتغير في استراتيجية الجماعة التكتيكية فلم يستطع، هل يتحرك حجازي من نفسه، مستحيل، إذن فما معنى أمر التجمهر والتظاهر السلمي حول القصر الجمهوري، جديد هذا على منهج الإخوان المستقر في الأذهان والذي أتابعه بشكل أود لو كان حيادياً حيال ازمة ضارية، ولم يكن الأمر يستحق كثير عناء وتفكير لأنضم للمسيرة وكانت المفآجأة أحكي عنها في الحلقة القادمة إن كان في العمر قادم بإذن الله تعالى..