رئيس التحرير: عادل صبري 11:05 مساءً | الجمعة 04 يوليو 2025 م | 08 محرم 1447 هـ | الـقـاهـره °

النموذج المقاصدي وحقوق الإنسان

النموذج المقاصدي وحقوق الإنسان
14 فبراير 2016

النموذج المقاصدي وحقوق الإنسان

سيف عبدالفتاح

النموذج المقاصدي وحقوق الإنسان

يُصّدِر أستاذنا الدكتور حامد ربيع (رحمه الله) في بحث غير منشور له حول "الخبرة الإسلامية ونظرية حقوق الإنسان ودلالاتها المنهجية"، نقد التوجه حيال المفاهيم الغربية وتبنيها وتقليدها من دون دليل أو برهان، ومن دون تبين عناصرها ومقتضياتها ونقدها نقدًا علميًا ومنهجيًا.. فكل من أرّخ للتراث الإنساني لم يكن إلا غربيًا، وانطلق من المفاهيم الغربية، والإنسانية المتقدمة فقط هي تلك النابعة من الحضارة الأوروبية، والتقدم السياسي هو أسلوب الحياة الديمقراطية في نموذجه الغربي، لا يتجزأ أي منهما عن الآخر.


مجموعة من المفاهيم المشوهة آن لنا أن نعيد النظر في جوهرها، لا بمعنى أنها غير صادقة، ولكن على الأقل بمعنى أنها غير مطلقة، هذه المفاهيم المختلفة كان لابد وأن تفرض إطارًا معينًا في فهم التاريخ السياسي والخبرة الإنسانية، حيث التقاليد العلمية تعودت أن تنطلق في فهم أي خبرة سياسية من الإطار الفكري المجرد الذي رسبته لنا المفاهيم الغربية.
 

ماذا عن الشريعة وحقوق الإنسان، فلم تكن الشريعة الإسلامية في أصولها العامة التي تنبثق عنها أحكامها المنبسطة على جميع شئون الحياة ومناحيها، لتستقي من حوادث محلية طرأت، أو ظروف آنية ووقتية حاقت بمجتمع ما في زمان معين، حتى تكون صدى لتلك الظروف، أو انعكاسًا لتلك الأحداث، تتبدل بتبدلها، فتنهار أسسها الأولى لتحل أصول أخرى تقضي على البنيان التشريعي كله في أسسه وغاياته، أو بعبارة أخرى ليست أثرًا لأهواء الإنسانية بما يحرك تلك الإرادة والأهواء والرغبات من دوافع النفس أو انفعالاتها وغاية الشريعة من ناحية أخرى، لم تتمخض عن صراع بين مصلحة الفرد والمجتمع، حتى تحدد على ضوء افتئات أحدهما على الأخر.


والشريعة الإسلامية سماوية الأصول، تتصل بالفطرة الإنسانية التي فطر الناس عليها، وهي ما أُنزلت إلا لتخرج عموم البشر عن دواعي أهوائهم، وتحد من شطط نزعاتهم، وهي - أي الشريعة - إذا أرست أصولها على مقتضى سنن الفطرة الثابتة في الكون (الجوهر الحقيقي المشترك بين بني الإنسان)، وأجرت ذلك بحيث يسود مع تطبيقها بالتي هي أحسن مقتضيات العدل الجامع، والاختيار الحر النافع، ومساواة مؤكدة تتمثل في وحدة الخلق، ولا تنفي تفاوتًا تفرضه طبيعة النفوس وملكاتها وتقسيم العمل وتنوع الوظائف وتعدد الأدوار، في سياق القاعدة التي تؤكد "أن كل ميسر لما خلُق له"، والشريعة تدور مع العدل أينما دار، ومع المصلحة المؤكدة المعتبرة أينما وجُدت وحُققت، فأينما كان العدل فثم وجه الشريعة، وإذا تأسست الشريعة على قواعد من كل ذلك، فإنها لا سيما إبان ممارسة الإنسان لما منحه الشارع من حقوق لا تغفل ما يستدعيه سير الحياة بالناس وتطورها من أحكام لهذه الأوضاع المتجددة أبدًا، وما تتطلبه الحاجات الطارئة من وفاء تشريعي، لأن في وسع تلك الأصول الثابتة والقواعد المقررة ما يفي بذلك ما تغير الزمان وما امتد المكان، وما تبدل الإنسان، فهي شريعة ثابتة في أصولها متطورة في فروعها.


ومن أهم المصالح تلك التي ترتبط بحقوق الإنسان والتزاماته قبل نفسه أو غيره بما يرتبط بهم من علائق اجتماعية وثقافية وفكرية واقتصادية وسياسية، ومن المعلوم أن "المصالح" مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، تبني عليها الأحكام الكفيلة بتحقيقها أيًا كان نوعها وطبيعتها، اجتماعية أم اقتصادية أم سياسية أم ثقافية، فضلًا عن المصالح الخلفية والدينية، والحقوق تشكل مجالًا لإعمال المصالح وحفظها في حق النفس والغير، والعدل الوسط غايتها بما يحفظ لها توازنها وتفاعلها وبما يمنع من تناقضها وتصارعها ونفيها بعضها بعضًا، فالشريعة على ما يؤكد ابن القيم حكمة كلها، عدل كلها، رحمة كلها، مصلحة كلها.


الاستخلاف في الأرض وكرامة الإنسان قاعدة للرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان، ومن أهم القواعد الأساسية التي لا يمكن النظر إلى حقوق الإنسان في الرؤية الإسلامية بمعزل عنها وبتأسيسها عليها، أن تقرير الحقوق والواجبات في الإسلام مصدره الله عز وجل ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾، ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾، وجعل ميزان الحق والواجب منصوبًا من قبل العدالة الإلهية يعطي تقرير الحق والواجب عمقًا عقيديًا، بحيث يطالب المرء بحقه في إصرار وثبات ويجاهد لأجله، لأنه من أمر الله الذي لا ينبغي أن يفرط فيه.


كذلك فإنه من المحال بالنسبة لعدالة الله وحكمته أن تتقرر حقوق الإنسان وحرياته الأساسية والمساواة بين البشر أجمعين دون أن يقترن ذلك بتقرير الواجبات فإن تلازم الحقوق والواجبات أمر مقرر يحفظ الفرد تجاه غيره، كما يجعله يستشعر مسئوليته تجاه الجماعة ككل.


فكل حق يتبعه ثلاثة واجبات، واجب معرفته، وواجب ممارسته والقيام به، وواجب حمايته والدفاع عنه، وبما يحفظ للحقوق كيانها واستمرارها ويوثقها ليس فقط في النظر بل في الممارسة والحركة. ويكمل تلك الواجبات المرتبطة بالحق واجب أساسي رابع يعني بمراعاة الحقوق في حق الغير وفق الأصول المرعية وبما تفرضه هذه الحقوق. وكذا الواجب المتعلق بضرورة تنظيمه ضمانًا للفاعلية وفقا للقاعدة الذهبية "تنظيم الحق ركن فيه، لا ينقضه ولا ينفيه".


تعتبر مقاصد الشريعة من أهم عناصر تأسيس الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان فإنه من استقراء الأحكام الشرعية المتعددة خلص الإمام "أبو إسحاق الشاطبي في كتابه الموافقات، إلى أن.. " تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها أن تكون ضرورية، والثاني أن تكون حاجية، والثالث أن تكون تحسينية. فأما الضرورية فمعناها أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج (فوضى) وفوت حياة (المصلحة).. والحفظ لها يكون بأمرين أحدهما ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود، والثاني ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم (أي ضرورة مراعاة ما يقيم ذلك ودفع ما يؤدي إلى الإضرار بها)، ومجموع الضروريات خمسة وهي حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وقد قالوا أنها مراعاة في كل ملة.


أما المقاصد فهي لب عمليات التأصيل لنظرية حقوق الإنسان لمراعاة هذه الأصول في حق الناس جميعًا، أفرادًا أو جماعات، ذواتًا أو أغيار، الذات والآخر، إن عناصر الحفظ المراعاة في حق الجميع وفي كافة المجالات، فهي عملية تستحق منا مزيد من التأمل حينما نتحدث عن حقوق الإنسان وواجباته، وعن أسس تحكم العلاقات الدولية من هذا المنظور، وهذه الأمور قد لا يكون هنا موضع التفصيل فيها وهذه جميعًا تؤسس هذه النظرة وتحركها وتفعلها، لتؤكد مرة أخرى على إمكانات التفعيل والتشغيل التي تحرك عناصر وصف ورصد، وعناصر تحليل وتفسير، وعناصر تعميم وتقويم، بما يحرك الدراسات في حقوق الإنسان ضمن منظور محدد، نظنه ليس خياليًا- أو مثاليًا بتعبير البعض، ولكنه منظور يحقق لفاعليات التنظير والحركة بمقتضاه أكثر الإمكانات والقابليات، ويحركها لمصلحة الكافة من دون حيف أو جور.


هذه المقاصد الأساسية للمجتمع الإنساني من الشمول، بحيث يندرج في مضمونها كافة الحقوق، ما كان منها ذا مضمون ديني أو خلقي أو سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي وما إلى ذلك، مما يتعلق بجميع نواحي الحياة ماديًا ومعنويًا، فإن فكرة المقاصد تتسع مساحتها لتستوعب الجديد من الحوق فيما رسم من مقاصد وغايات وما شاع من بل عملية لتحقيقها وتنميتها وحفظها، ويمكن للمنهج المقاصدي أن يحرك عناصر بناء أجندة متميزة من الحقوق، وعناصر مهمة من الضوابط في عملية تنظيمها أو ممارستها.


ليست تلك سوى إشارات مهمة في الإمكانات التي يتيحها النموذج المقاصدي في تنظير حقوق الإنسان، والأمر ما يزال في حاجة لمزيد من التفصيل لا يتسع المقام له، كانت هذه أفكار للنظر الاجتهادي والتجديدي التي يجب الاهتمام بها في دائرة تجديد المشروع الإسلامي ذاته.

الحلقة الأولى: المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال 

الحلقة الثانية: إشكال الاختزال 

الحلقة الثالثة: النقد الذاتي فضيلة وفريضة وضرورة 

الحلقة الرابعة: الشريعة والمشروع 

الحلقة الخامسة: الأمة وعواقب الدولة القومية 

الحلقة السادسة: الأمة وعواقب الدولة القومية (2) 

الحلقة السابعة: الجماعة الوطنية اجتهاد في حق الوطن والمواطنة 

الحلقة الثامنة: أمتنا.. من المسألة الشرقية إلى الشرق الأوسط الكبير  

الحلقة التاسعة: مشروعان يتدافعان في المنطقة.. الأمة الوسط والشرق الأوسط الجديد

الحلقة العاشرة: مشروع التغيير الإسلامي والذاكرة الحضارية.. الخبرة والعبرة

الحلقة الحادية عشرة: خريطة التحديات الحضارية في العالم الإسلامي.. التحديات الداخلية

الحلقة الثانية عشرة: التحديات الحضارية الخارجية وعالم المسلمين 

الحلقة الثالثة عشرة: التحديات الخارجية ومعضلة الدولة القومية والعلاقات الدولية

الحلقة الرابعة عشرة: تحدي العولمة

الحلقة الخامسة عشرة: ميزان المقاصد المعلوماتي على طريق المعرفة والحكمة

الحلقة السادسة عشرة: تجديد الخطاب الإسلامي

الحلقة السابعة عشرة: التجديد والحكم الراشد

الحلقة الثامنة عشرة: علم "الاستبداد".. ضرورة تأسيس واجتهاد مطلوب

  • تعليقات فيسبوك
  • اعلان

    أحدث المقالات

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    محمد إبراهيم

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    السيئ الرئيس!

    سليمان الحكيم

    السيئ الرئيس!

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    علاء عريبى

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    تامر أبو عرب

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    ما جريمة عادل صبري؟

    يحيى حسين عبد الهادي

    ما جريمة عادل صبري؟

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    أميمة أحمد

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    محمد إبراهيم

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    عادل صبري حفيد النديم

    سليمان الحكيم

    عادل صبري حفيد النديم

    عادل صبري وترخيص الحي!

    علاء عريبى

    عادل صبري وترخيص الحي!

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية

    السيد موسى

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية