رئيس التحرير: عادل صبري 04:50 مساءً | الجمعة 04 يوليو 2025 م | 08 محرم 1447 هـ | الـقـاهـره °

علم "الاستبداد".. ضرورة تأسيس واجتهاد مطلوب

علم
07 فبراير 2016

علم "الاستبداد".. ضرورة تأسيس واجتهاد مطلوب

سيف عبدالفتاح

علم "الاستبداد".. ضرورة تأسيس واجتهاد مطلوب

يؤكد المستشار البشري على ضرورة أن نؤسس علمًا للاستبداد للتعرف على مداخله والعوامل التي تشكل قابليات له، والاجتهاد في تأسيس هذا العلم صار من الضرورات البحثية والمقتضيات العملية والواقعية.


يعتبر كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد للعلامة عبد الرحمن الكواكبي (1854-1902) من الكتب الجديرة بالقراءة والدراسة، وعلى الرغم من أن الكتاب قد مرت على تأليفه سنوات طويلة إلا أنه يشخص الحالة السياسية الراهنة بصورة دقيقة ومعبرة، فالكتاب يتحدث عن الاستبداد وطبائعه كما يتحدث بإسهاب عن المستبد وحاشيته وعلاقة الاستبداد بالدين والمال والمجد والعلم وغيرها، بجانب ذلك يقدم الكواكبي في نهاية كتابه العميق الرصين وصفة دقيقة وحكيمة ومكينة عن كيفية التخلص من الاستبداد.


ستجد في الكتاب وأنت تطالعه حكاية ما يحدث في هذا الوقت الدقيق وهذا المنعطف الخطير، الذي تمر به المنطقة العربية، ففي هذا الوقت العصيب يغادر حياتنا السياسية ثلة من المستبدين غير مأسوف عليهم، فمن المستبدين من قذفه شعبه في مزابل التأريخ ومنهم من ينتظر.


الكتاب حسب وجهة نظري يتخذ أهمية خاصة في هذه اللحظة المفصلية بالتحديد والعالم العربي يفور ويمور على مرجل التغيير والرحيل، كما أن الكتاب سينال زخم أكبر حينما نضع أحد هؤلاء المستبدين الذاهبين واللاحقين لنجد الكتاب وكأنه يتحدث عنه وبذلك يكون الكواكبي وكأنه كان ينظر عبر نافذته التاريخية لاستبداد عصرنا الراهن والمستبدين الذين غزلهم نول زماننا الحائر، وسنجد أنفسنا ونحن نطالع الكتاب وكأننا نعيش في عصر الكواكبي أو كأن الكواكبي يعيش بيننا، وعلى كل فإن الكتاب يستشرف التاريخ بصورة كاشفة وفارقة ولافتة وجديرة بالبحث والمطالعة.


هذا الكتاب "نص حر" يحرض على الحرية ويصنع حياتها، النص الحر وهو نادر في وجوده وفى قيمته يحرك كل مفردات الحرية والكرامة والشرف والعزة والإرادة، أنه يطالب بكتاب للعلوم السياسية مغموسًا قلمه في محبرة الحرية والتضحية من أجلها، إنه يواجه كيمياء السلطة واستبدادها ويقاوم تكنولوجيا الاستبداد وتجلياتها.


إنه يعرف العلوم السياسية تعريفًا فريدًا عميقًا بلفظ حر ومعنى حر، يخلص الإنسان من الخنوع والمذلة والعبودية، يعرف الكواكبي علم السياسة بأنه "إدارة الشؤون المشتركة بمقتضي الحكمة يكون بالطبع أول مباحث وأهمها علم الاستبداد أي التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضي الهوى"، ويقول: "الحكومة من أي نوع كانت لا تخرج من وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة"، ويرى أن "المتكلم في هذا الباب عليه أن يلاحظ  تعريف الاستبداد وأسبابه وأعراضه ودواؤه".. هل فهمتم يا سادة ما هي بنية علم السياسة الحر، تهتم بالضرر الأكبر الواجب منعه ودفعه ورفعه بكل طريق ومن كل طريق، معرفة الاستبداد قبل الحديث عن مداخل ومسالك عمران البلاد، لأن الظلم والاستبداد يخرب ويؤذن بخراب العمران.


ولو تدبرنا الأمر بما يحدث من تطورات في الحالة المصرية حتى وصلنا إلى محطة غاية في الخطورة وهي الحالة الانقلابية، فإن الكتاب يشير، ومن طرف خفي، في استراتيجية أسئلته الكبرى: كيف تفقد الشعوب مكانتها ضد الاستبداد، وفي سياق يشير ليس فقط إلى الاستبداد في ذاته وتشريح مكوناته ورصد آلياته وأساليب سياساته وممارساته، بل يشير إلى قابليات الاستبداد التي تحكم عناصر الاستبداد وتمكن لحلقاته على الأرض استقرارًا واستمرارًا.


لو كان الأمر لي لجعلت الكتاب أحد الكتب التي يدرسها الطلاب في مدارسنا، حتي تتعرف الأجيال على الاستبداد وتحاربه وتضع المتاريس في طريقه ولكن هذا لن يتحقق إلا في ظل دولة عادلة وغير مستبدة، يُدرس بدلًا من كتب لحقوق الإنسان المزيفة أو كتب التربية الوطنية الصانعة للمستبد المروجة لسلطانه وطغيانه بالحديث تارة عن الزعيم الملهم وتارة أخرى عن الزعيم الخالد وتارة ثالثة عن زعيم يقطر بالحكمة لا تتعداه، فيسهل تداول الخطاب المنافق "بناء على توجيهات الزعيم أو السيد الرئيس"، إنه الكتاب الذي يصنع الحرية ويبني مواقف الأحرار.


إنه يشير إلى جهالة الشعوب التي تشكل قابليات للاستبداد و"الجندية " التي تشكل أخطر آليات الاستبداد "شدة الجندية الجبرية العمومية"، اجتماع هذين الأمرين تمكين لحال الاستبداد، إنه يقرأ الانقلاب حينما تتحول الجندية في استخدام قوتها وتزيف أدوارها، وكأنه يشير من كتابه المفتوح الى استبداد الانقلاب والاستبداد الانقلابي.


المستبد الغاصب المتعدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها من النطق بالحق والتداعي لمطالبته، وحول خوف المستبد يقول الكواكبي أن "خوف المستبد من نقمة رعيته أكثر من خوفهم من بأسه، لأن خوفه ينشأ من علمه بما يستحقه منهم، وخوفهم ناشئ عن جهل، وخوفه عن عجز حقيقي فيه، وخوفهم عن توهم التخاذل فقط، وخوفه علي فقد حياته وسلطانه، وخوفهم علي لقيمات من النبات، على وطن يألفون غيره في أيام.


الاستبداد يتكلم عن حسبه ونسبه، فيجمع سلفه الظالم وذراريه اللاحقة المتشربة لظلم وظلام العبودية، الظلم ظلمات، "يقول الاستبداد: أنا الشر أبي الظلم وأمي الإساءة وأخي الغدر وأختي المسكنة وعمي الضر وخالي الذل وابني الفقر وبنتي البطالة ووطني الخراب وعشيرتي الجهالة".. الاستبداد داء أشد وطأة من الوباء وأكثر هولًا من الحريق وأعظم تخريبًا من السيل وأذل للنفوس من السؤال.. داء – أي الاستبداد - إذا نزل بقوم سمعت أرواحهم هاتف السماء ينادي القضاء القضاء والأرض تناجي ربها بكشف البلاء، ويتساءل الكاتب كيف لا تقشعر الجلود من الاستبداد وعهده أشقي الناس فيه العقلاء والأغنياء وأسعدهم بمحياه الجهلاء والفقراء بل أسعدهم أولئك الذين يتعجلهم الموت فيحسدهم الأحياء؟!


وعن الحكومة المستبدة يقول الكواكبي: "الحكومة المستبدة تكون طبعًا مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفرّاش، إلى كنّاس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقًا، لأن الأسافل لا يهمهم طبعًا الكرامة وحسن السمعة، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أي كانت ولو بشرًا أم خنازير، آبائهم أم أعدائهم، وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه، فيشاركهم ويشاركونه، وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته، فكلما كان المستبد حريصًا على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيد من الدقة في اتخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدين أو ذمة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة وهي أن يكون أسفلهم طباعًا وخصالًا أعلاهم وظيفة وقربًا، ولهذا لا بد أن يكون الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم في الأمة.


هذا الكلام النفيس يوحي لنا أن تأسيس هذا العلم صار من واجب الوقت ودراسة قابلياته وممكناته من دولة عميقة تسوده وتسير في ركابه، إنه العلم الذي أسسه الكواكبي وطالب به الحكيم البشري وفرضها واقع الأمر الانقلابي بكل تأثيراته وحكم العسكر بكل بطش وطغيان، بكل فساده ومصالحه الأنانية والدينية، فليكن هذا محل اجتهاد المشروع الإسلامي الذي كان وما يزال أكثر من اكتوى بنيران ويلاته، ولنتعلم الدرس كيف تفقد الشعوب حصانتها ضد الاستبداد؟، وما هي قواعد مؤسساته وشبكات فساده، نعم يا سادة.. الأمر يستأهل تأسيس علم الاستبداد.

 

الحلقة الأولى: المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال 

الحلقة الثانية: إشكال الاختزال 

الحلقة الثالثة: النقد الذاتي فضيلة وفريضة وضرورة 

الحلقة الرابعة: الشريعة والمشروع 

الحلقة الخامسة: الأمة وعواقب الدولة القومية 

الحلقة السادسة: الأمة وعواقب الدولة القومية (2) 

الحلقة السابعة: الجماعة الوطنية اجتهاد في حق الوطن والمواطنة 

الحلقة الثامنة: أمتنا.. من المسألة الشرقية إلى الشرق الأوسط الكبير  

الحلقة التاسعة: مشروعان يتدافعان في المنطقة.. الأمة الوسط والشرق الأوسط الجديد

الحلقة العاشرة: مشروع التغيير الإسلامي والذاكرة الحضارية.. الخبرة والعبرة

الحلقة الحادية عشرة: خريطة التحديات الحضارية في العالم الإسلامي.. التحديات الداخلية

الحلقة الثانية عشرة: التحديات الحضارية الخارجية وعالم المسلمين 

الحلقة الثالثة عشرة: التحديات الخارجية ومعضلة الدولة القومية والعلاقات الدولية

الحلقة الرابعة عشرة: تحدي العولمة

الحلقة الخامسة عشرة: ميزان المقاصد المعلوماتي على طريق المعرفة والحكمة

الحلقة السادسة عشرة: تجديد الخطاب الإسلامي

الحلقة السابعة عشرة: التجديد والحكم الراشد

 

  • تعليقات فيسبوك
  • اعلان

    أحدث المقالات

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    محمد إبراهيم

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    السيئ الرئيس!

    سليمان الحكيم

    السيئ الرئيس!

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    علاء عريبى

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    تامر أبو عرب

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    ما جريمة عادل صبري؟

    يحيى حسين عبد الهادي

    ما جريمة عادل صبري؟

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    أميمة أحمد

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    محمد إبراهيم

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    عادل صبري حفيد النديم

    سليمان الحكيم

    عادل صبري حفيد النديم

    عادل صبري وترخيص الحي!

    علاء عريبى

    عادل صبري وترخيص الحي!

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية

    السيد موسى

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية