رئيس التحرير: عادل صبري 10:17 مساءً | الجمعة 04 يوليو 2025 م | 08 محرم 1447 هـ | الـقـاهـره °

التجديد والحكم الراشد

التجديد والحكم الراشد
31 يناير 2016

التجديد والحكم الراشد

سيف عبدالفتاح

التجديد والحكم الراشد

من الأمور المؤكدة أن مفهوم الحكم الراشد ظل سؤالًا مهمًا ضمن الأسئلة الأساسية والأبدية للفكر السياسي بوجه عام؛ ومن ثم عبر هذا المفهوم عن ظاهرة قديمة ارتبطت بنشأة الاجتماع الإنساني من جانب وضرورات السلطة من جانب آخر، وذلك في إطار يحدد أصول العلاقة بين الدولة والمجتمع، إلا أن المفهوم مع قدمه والتطورات التي طرأت عليه ومحطات التحولات التي ارتبطت به تعبر وتؤشر على جملة من الدواعي المتعلقة بإعادة تجديد النظر وممارسة الاجتهاد بصدد "مفهوم الحكم الصالح الرشيد".


يقدم الحكم الراشد رؤية رحبة تتعلق بنموذج الحكم وارتباطه بالأصول الشورية والعلاقة بين معايير الحكم ومعايير المساءلة والشفافية بما يؤسس لحكم صالح، يؤسس لعلاقة سياسية سوية من جانب، ويُشيّد معمار العلاقات بين الدولة والمجتمع من جانب آخر، بحيث يستلهم في صياغاته معاني المرجعية والشرعية والدافعية والجامعية والفاعلية، يجد في ذلك المنظور الإسلامي الحضاري تقاليد راسخة من مداخل متنوعة يمكن الوقوف عليها ضمن سياقات مقارنة تحفز عناصر الرشادة في العمليات السياسية والإدارية وتؤكد على متطلبات المؤسسية وفاعليتها فضلًا عن ضرورة بناء الاستراتيجيات الكلية والحضارية، والعلاقة السوية بين الدولة والمجتمع، وصياغة العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم، بما يحقق مقاصد الحكم الصالح وأهم ما يرتبط به في التأكيد على حقوق الإنسان، وتحقيق فاعليات الأمن الإنساني الشامل في منظوره الحضاري والعمراني والتنموي.


ظهور مفهوم الحكم الراشد يتعلق بشكل عام بقضية كيفية الإفادة من الموارد العامة، وبناء الاستراتيجيات وصياغة السياسات العامة، وتفعيل كل الطاقات المتعلقة بالمجال العام والقيم العامة وكذا المصلحة العامة، كما أن تحقيق التنمية مرتبط ارتباطًا مباشرًا بتحقيق ما نطلق عليه "الحكم الراشد"، فكثير من جهود التنمية أُهدرت بلا عائد بسبب سوء السياسات، وكثير من الموارد ضاعت بسبب الفساد، فإرساء دعائم حكم رشيد يؤدي إلى استخدام أفضل للموارد المتاحة وتعظيم العائد منها تراكمًا ومساحةً وتوزيعًا.

وتتنوع عناصر الحكم الراشد، وإن كان في مقدمتها؛ قدرة الدولة على إدارة الموارد العامة، وكذلك الالتزام بتحقيق الصالح العام، وأيضًا الشفافية، وحكم القانون، والمشاركة، فضلًا عن رأس المال الاجتماعي.


ولاشك أن هذه التصورات للمفهوم على اختلافها وتنوعها للحكم الصالح الرشيد ظلت تثير قضايا تتعلق بالخصوصية والعالمية ضمن تلك الخبرات المتنوعة وضمن إسهامات لحضارات مختلفة حول هذا المفهوم، وفي القلب منها تقع الحضارة الإسلامية بمنظومة إسهاماتها الفكرية والعملية، وفي هذا السياق فإن المفهوم أشر على جملة من الإشكالات التي يجب التوقف عندها.

أول تلك الإشكالات تتعلق بحقيقة المفهوم وارتباطه بحضارة دون أخرى أو بمعنى أدق بارتباطها بحضارة الغرب الذي ينتج عالم المفاهيم السائدة والغالبة والمهيمنة ويوزع هذه المفاهيم على بقية المعمورة ضمن حالة من الولع لدى المغلوب يقتنص مفهوم من هنا، ومفهوم من هناك ضمن عمليات لا تقوم على رشد أو تعامل سديد، غاية الأمر في هذا هو ارتباط مثل هذه المفاهيم الاستراتيجية بكثير من الحضارات إلا أن الحضارة الغالبة المتمركزة حول ذاتها وفي إنتاج عالم المفاهيم التي ترغب في تعميمه وتنميط بقية الدنيا على شاكلته إنما تشكل كل تلك المعاني التي تتعلق بالمفاهيم الحضارية الكبرى والتي تفعل فعلها في علاقة غير سوية بين الحضارات والثقافات وتعلن الحضارة الغالبة على سيادتها على بقية المعمورة وتؤكد احتكارها لعالم المفاهيم.


إن المفهوم خاصة بصفته التي تتعلق بالرشد والصلاح، هو من صميم الرؤية الإسلامية، آية ذلك حينما وجدنا في التاريخ اللفظة التي سادت لتعبر عن حالة الحكم باسم "الخلافة الراشدة"، الخلافة الراشدة في حقيقة الأمر ليست إلا الحكم الرشيد، والتعبير عن مجمل القواعد والسنن والخصائص والسمات التي تميزه عن غيره من تصنيفات النظم التي تتعلق بالحكم وبإدارة العلاقة بين الدولة والمجتمع.


إن العلم الغربي والذي ظل وقتًا طويلًا لا يستخدم في علومه الكلمة التي تتعلق بأي تضمينات قيمية وضمن حركته ومسيرته العلمية التي ظل يؤكد فيها على أن العلم هو بالأساس لابد وأن يتشكل خارج نطاق دائرة القيم، ومن هنا فإنه أبرز معنى العلمية بتلك الكلمة التي اشتهرت بالعلم الخالي من القيم، وفي هذا المقام فإننا ندهش من عودة كلمة وصف Good مرة أخرى لتصف عملية الحكم في امتدادها والتي تشير إلى إدارة العلاقة بين الدولة والمجتمع (Governance) وهو أمر يشير كيف أن كلمة الخير والجيد قد عادت لتصف عمليات يعتبرها الغرب في صميم العلم في هذا المقام.


إن الأمر الذي يؤكده هذا المفهوم بدا كأمر حاولت فيه جملة الدراسات الغربية أن تعود بالمفهوم إلى محضن المادية التي شكل بها الغرب عالم معارفه، ومن هنا فإن هذا المفهوم الذي تعلق بالحكم الراشد ما لبث إلا أن تحول لذات الدائرة في إطار تضمينات مادية طافحة تربط الحكم الراشد بمجالات بعينها مثل الاقتصاد والشركات وإدارة الأعمال، وهو أمر يدل على أن الغرب حتى حينما يستدعي الأمر أن يستخدم كلمات من طبيعة معنوية فإنه لا يلبث إلا أن يعود إلى أدراجه بحيث يحول المفهوم إلى الدائرة المادية ويصبغه بها.


يمكن أن نتصور أهمية الحكم الصالح الرشيد ضمن عملية الهندسة الحضارية تلك وتأثير ذلك في التشييد المكين لمشاريع النهضة والإصلاح، تبدو لنا هذه الأهمية واضحة جلية في أهمية وضوح الرؤية حول المفهوم شمولًا بحيث يشير إلى صياغة سوية للعلاقة بين الدولة والمجتمع وإلى صياغة رشيدة للعلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم وذلك في مواجهة كل أشكال الاستبداد التي انتشرت وكل مظاهر الفساد التي استشرت، ومن المهم أن نؤكد على ضرورة الترجمة العملية للحكم الصالح الرشيد في ضوء الواقع الفعلي والسياقات المحيطة معتبرًا إياها غير خاضعة لكل ما أدى إلى تمكين الظلم والاستبداد والفساد، وهو أمر يتطلب أن نعرض هذا الإسهام الإسلامي في صياغة هذا التصور الكلي الشامل للحكم الصالح الرشيد في رؤية إسلامية رصينة وبصيرة تقدم لمجمل الرؤية الإنسانية إضافة لا يجوز إغفالها تستحق أن تقارن بما قدمته الحضارات والثقافات الإنسانية، كما تؤكد من جانب آخر على ضرورة أن تمارس الحضارة الإسلامية من خلال علمائها مسارًا تجديديًا واجتهادًا ضروريًا تؤصل وتفعل وتشغل من خلال تلك القنوات مفهومًا عمليًا يرقى إلى أن يتنافس مع غيره ويسهم في عمليات النهوض والإصلاح.


ومن الضروري إعادة تعريف السياسي ورد الاعتبار لمفهوم السياسة الشامل من منظور إسلامي وتأثير ذلك على التعامل مع الواقع من ناحية وعلى القدرات المتعلقة بفهمه وتأثيره بل وتقويمه من ناحية أخرى، وهو أمر يفضي بنا في النهاية إلى تلك الضرورة التي تدفع إلى مقارنة الخبرات المتنوعة والتي تتعلق بتطبيقات في هذا المقام بحيث تشكل مداخل لرؤية وآليات التمكين للحكم الصالح الرشيد.


في مسيرة الاجتهاد والتجديد تشكل منطقة الحكم الراشد أولى المساحات الأولى بالاهتمام.


الحلقة الأولى: المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال 

الحلقة الثانية: إشكال الاختزال 

الحلقة الثالثة: النقد الذاتي فضيلة وفريضة وضرورة 

الحلقة الرابعة: الشريعة والمشروع 

الحلقة الخامسة: الأمة وعواقب الدولة القومية 

الحلقة السادسة: الأمة وعواقب الدولة القومية (2) 

الحلقة السابعة: الجماعة الوطنية اجتهاد في حق الوطن والمواطنة 

الحلقة الثامنة: أمتنا.. من المسألة الشرقية إلى الشرق الأوسط الكبير  

الحلقة التاسعة: مشروعان يتدافعان في المنطقة.. الأمة الوسط والشرق الأوسط الجديد

الحلقة العاشرة: مشروع التغيير الإسلامي والذاكرة الحضارية.. الخبرة والعبرة

الحلقة الحادية عشرة: خريطة التحديات الحضارية في العالم الإسلامي.. التحديات الداخلية

الحلقة الثانية عشرة: التحديات الحضارية الخارجية وعالم المسلمين 

الحلقة الثالثة عشرة: التحديات الخارجية ومعضلة الدولة القومية والعلاقات الدولية

الحلقة الرابعة عشرة: تحدي العولمة

الحلقة الخامسة عشرة: ميزان المقاصد المعلوماتي على طريق المعرفة والحكمة

الحلقة السادسة عشرة: تجديد الخطاب الإسلامي

 

  • تعليقات فيسبوك
  • اعلان

    أحدث المقالات

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    محمد إبراهيم

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    السيئ الرئيس!

    سليمان الحكيم

    السيئ الرئيس!

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    علاء عريبى

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    تامر أبو عرب

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    ما جريمة عادل صبري؟

    يحيى حسين عبد الهادي

    ما جريمة عادل صبري؟

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    أميمة أحمد

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    محمد إبراهيم

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    عادل صبري حفيد النديم

    سليمان الحكيم

    عادل صبري حفيد النديم

    عادل صبري وترخيص الحي!

    علاء عريبى

    عادل صبري وترخيص الحي!

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية

    السيد موسى

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية