
المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال.. خاتمة فاتحة
سيف عبدالفتاح
المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال.. خاتمة فاتحة
من المسائل المهمة ونحن نختتم هذا الملف أن نفتحه واسعًا بما يحمل من قضايا وموضوعات، بأفقه وانفتاحه، فقد اهتممنا فيه بالسياقات وما يكمن فيها من قضايا وتحديات، كل ذلك يتطلب اجتهادًا ضروريًا وتجديدًا أساسيًا.
لقد حمل هذا الملف عنوانًا موقفيًا شاملًا (المشروع الإسلامي الحضاري الكبير غير قابل للاستئصال)، وقدمت فيه المشروع وطبيعته، والمشروع ووسطه، وماذا نعنيه بالإسلامي، ووصف الحضاري منه ومعنى ومغزى الكبير فيه، حتى لا يستغرقه فصيل أو يٌستغرق في فصيل، وكان الموقف في خاتمة هذا العنوان أنه غير قابل للاستئصال، لم يكن ذلك تقريرًا أو تقديرًا وأماني، ولكن أردنا أن يكون معنى غير قابل للاستئصال خطة عمل متواصل ومتراكم يتسم بالرصانة والمسئولية، يتضمن عملًا اجتهاديًا ومجددًا، عملًا منفتحًا في أفقه وغايته، موصول بتنوعاته وإنسانيته.
قد يٌصاب هذا المشروع وغالبًا أهله بعض القصور والجمود، وتارة أخرى قد يتمتع بالحيوية الإحيائية والتجديد، في دورات شرطية مفتوحة ارتبطت في مسارها بحديث التجديد، "يبعث الله على رأس كل مئة من يجدد لهذه الأمة دينها"، فيكون هذا التجديد وتواصله ومواصلته متنوعًا في مساحاته وساحاته وفي القائمين عليه ومن يحملونه، وحينما نؤكد أنه لا يقبل الاستئصال فإن ذلك يعني ضمن ما يعني تحريك حالة من تجديد الوجود والحضور في الواقع وامتدادته وبما يرتبط من ناحية أخرى الاتساق مع متطلبات الحفظ الدائم.
إنها طاقات وحركة التدافع في المشروع التي تستنفر كل إمكانات ومسالك التعامل والمقاومة ومسارات الاجتهاد والتجديد وكل بنيات الوجود والصمود، المشروع إذن عمل حضاري ومتواصل بما يفيد من مساحات الاتساع وطاقات الانتشار والقدرة على فتح وتجديد الآفاق في العلاقات والتفاعلات، إنه العمل التعارفي الذي يحرك ثلاثية المشروع الإسلامي؛ المعرفة التراكمية البانية، والاعتراف المتعلق بحقائق الواقع في إطار القاعدة عدم الوجدان لا يعني عدم الوجود، أما المعروف فهو تعبير عن منظومة القيم المشتركة التي ترتبط بامتداد الإنسانية، الانسانية هنا تستند إلى عالمية الإسلام التي هي مناط الرحمة، عالمية تكمن في الإنسانية، وإنسانية تكمن في عالميته، إنسانية هذا المشروع تعني واقعيته وانفتاحه وتفاعليته.
أما عن صفة الحضاري، الذي يرتبط بمفهوم "الحضاري" يمكن تحديده تحديدًا منهجيًا.. فمفهوم "الحضاري" يتضمن أربعة أبعاد أساسية يتشكل ويوظَّف بها المفهوم؛ وهي:
* البعد المرجعي (الجذور والأصول): ويعني أن تجسد المعرفة أو العلم أو الفكر - في مضمونه - أبعاد المرجعية وقيمها الكونية والحضارية والعقائدية.
* البعد المنهجي الموضوعي (أصول المنهاجية): فالمنهجية في أي فكر حضاري هي الجهاز الإجرائي الذي ينسق الفكر وينظمه بصورة تبيّن موضوعيته ومنطقيته. فبالبعد المنهجي يصبح مفهوم "الحضاري" ذا قيمة موضوعية يمكن تحليلها وإخضاعها للمقاييس العلمية ويمكن اختبار مقدماته ومسلماته ومضمونه ونتائجه، والتأكد من صحة هذه الأمور أو خطئها.
*البعد الواقعي الاجتماعي (اعتبار الواقع): بهذا البُعد يقدر الفكر الحضاري على الاستجابة للواقع وملابساته وتحولاته وتغيراته الجزئية والكلية، الشكلية والمضمونية. فوصف الفكر بالحضاري يحوله إلى وعي اجتماعي مؤثر بفعل النشاط الإنساني، ويجعله أكثر تعلقًا بالحياة والحركة والسلوك.
* البعد العالمي الإنساني (العالمية والأنسنة):
ومعناه أن تُدرس الأفكار وتُحلل المشكلات في عمقها الجغرافي العالمي الإنساني الذي يفتح الآفاق للفكر ليمتد إلى ما وراء وجوده الخاص، فيعانق أفكار الآخرين ويتحاور مع الثقافات الأخرى. فالفكر الموصوف "بالحضاري" هو فكر إنساني متجاوز لجغرافية الشخص وجغرافية وعيه الشخصي وثقافته الخاصة، ومتوجه نحو الإنسان عمومًا والعالم شمولًا. فمفهوم "الحضاري" يجعل من العلم والفكر قيمة عالمية عامة.
وصف "الحضاري" إذن يشير إلى إطار مرجعي معياري، ومنهج موضوعي متناسق، وخطاب واقعي عملي يواجه مشكلات الإنسان والحضارة، وشمول باتجاه استيعاب الآخرين عالميًا وإنسانيًا، منطلقًا في هذا الصدد من مقومات عقيدية وحركية ونظمية.
إن خرائط الاتجاهات التي قد تتنوع مسارًا وأولويات واهتمامات حتى أنه يمكن الحديث عن مشروعات مختلفة أكثر مما يمكن الحديث عن مشروع واحد جامع إلا إذا تكاملت هذه المشروعات وتقدمت إلى معنى الجوامع والموافقات فيما بينها تحقيقًا لجامعية الأمة كأهم شرط من شروط مواجهة التحديات كمقدمة لنهوض الأمة واستئناف مشروعها الحضاري مكانة وتمكينًا.
ومن الأمور المهمة فى هذا المقام أن نميز بين مشروع التغيير الحضاري من منظور إسلامي وبين أشكال أخرى قد تتقاطع معه ولكنها لا تستوعب كل كمالاته وفاعلياته، من مثل البرنامج السياسي والبرنامج الحزبي وكذا البرامج الانتخابية، وكذلك من الواجب أن نميز بين المشروع الحضاري للتغيير وبين ما يمكن تسميته بالمشروعات الفكرية التي تُنسب لمؤسسات أو أفراد من مفكري هذه الأمة، وغاية الأمر في التوقف عند هذه الفروق أن نؤكد أن ما يمكن تسميته بالمشروع الحضاري للتغيير يتسم عن غيره بالشمول الواجب لاستيعاب متغيرات الساحة الحضارية وامتدادتها، كما أنه محدد في مرجعية تأسيسه.
ورغم أن المشروع الحضارى لا يفقد صلته بالواقع لزومًا، على ضوء القاعدة الذهبية وهي إعطاء الواجب حقه من الواقع وإعطاء الواقع حقه من الواجب، فإنه يقدم رؤاه الكلية للنظر حيال جملة القضايا والإشكاليات والأسئلة ذات الطابع الحضاري ضمن تسكين هذه الرؤى ضمن معمار منظومي متماسك موصول بالواقع غير متخط له أو لاعتباراته، كما أن هذا المشروع الحضارى لا يتوقف عند إشكالات الواقع بل تمتد به الأمور ليقدم رؤية للمستقبل، كما أنه لابد أن يفيد من خبرات الذاكرة الحضارية ونماذج التاريخ، وتصير أهمية مثل هذه المشاريع الحضارية أنها تُصاغ على مدى أطول زمنيًا، بينما تُصاغ الأشكال الأخرى لاعتبارات آنية مؤقتة أو لاعتبارات زمنية أقل. كما أن هذه المشاريع ترتبط بشروط فكرية وأخرى نظمية مؤسسية وثالثة تتعلق بالشروط الحركية المرتبطة بالواقع والممارسة.
وغاية الأمر أن هذه التحديات التي تشكل مركز اهتمام هذا المشروع صارت تتشكل وتملك تأثيراتها ضمن منظومة يصعب فيها من ناحية الفصل فى التأثير والتفاعل بين عناصر الداخل والخارج فيها من ناحية، فضلًا عن صعوبة تحديد ما هو الداخلي أو الخارجي وفق عناصر تقويم وتقييم لأوضاع التحديات وأشكال الاستجابات.
إننا أمام عناصر قسمة جديدة لابد من ملاحظتها وأخذها في الاعتبار إذ ما أردنا رؤية خريطة التحديات على حقيقتها، ذلك أن كثيرًا من الدراسات فى هذا المقام قد تنجح بدرجة أو بأخرى في رسم خريطة التحديات أو وصفها وصفًا دقيقًا، إلا أنها قد لا تفلح في رصد هذه التحديات ضمن الوسط والبيئة المحيطة بها، فقد نتصور ذلك ضمن افتراض أن هناك "أمة إسلامية" باعتبارها كيان يملك الإرادة السياسية المتحدة والقرار السياسي الواحد ودراسات أخرى قد تنظر إلى هذه الدول باعتبارها دولًا قومية لا تأثير لوصف الإسلامية على وصف إشكالاتها أو تحدياتها، ومن ثم فهي تحيد ذلك الوصف وما يمكن أن يتركه من آثار تتمثل في بعض منها ما تحمله من ذاكرة تاريخية ممتدة لابد أن تجد تأثيراتها الفعلية على أرض الواقع وفي إنتاج الظواهر السياسية المرتبطة به في بعض تكويناتها.. فضلًا عما تحمله هذه التحديات من مخزون تاريخي لا يمكن إهماله بأي حال في الوصف والرصد، كما لا يمكن تغافله ضمن تصورات المواجهة واتخاذ مواقف التحدي أو بدائل أخرى، وذلك ضمن صياغة مشروعاتها الحضارية في تشكيل عناصر الاستجابة الفاعلة لهذه التحديات الوصف ضمن الوسط لا يزال يملك تأثيرًا على أرض الواقع في إطار الامتداد التاريخي من جهة والامتداد المستقبلي من جهة أخرى.
هذه النظرة الشاملة تزكى المنظور الحضاري بما يتضمنه ذلك من آثار على كل العمليات المنهجية في الوصف والتحليل والتفسير والتقويم، ويتحرك ضمن مسارين مهمين:
الأول يتعلق بإطار مدخل السنن ، الباحث في أصول العلل والأسباب والعلاقات الارتباطية والشرطية ضمن مكونات الفعل الحضاري، السنن الحاكمة لصعود الحضارات وضعفها.
الثاني يتعلق بالاستفادة من مدخل المستقبليات، والذي يُمكّن من النظر إلى مستقبل هذه التحديات، ومؤشرات حول طرائق مواجهتها، وذلك في سياق الارتباط بين هذا وذاك في إطار السنن الفاعلة.
الأمر أن المشروع الحضاري للأمة الواحدة المؤكد على معنى جامعيتها يقوم في الحقيقة على تراثها وأصولها، ومن قيمها ومبادئها، ونجاح هذه الأمة يعتمد بصورة أساسية على مدى أصالة هذا التراث، وهذه القيم والمبادئ ، واستثمار كل إمكانات هذه الأمة ومكنوناتها، فتحولها إلى مكنة ومكانة وتمكين.
في النهاية وبهذا المقال الاختتامي إنما لا يشكل إشارة إلى إغلاق الملف بل فتحه واسعًا لعملية اجتهاد وتجديد عميقة ورصينة، وهذا المشروع لا بد له من حامل ولا بد له من حاضنة ولا بد أن يملك أجهزة فكرية تتكامل في بناء هذا المشروع الفكري والحركي والمؤسسي، فيضمن كل ذلك الفاعلية في الأداء والتأثير.