رئيس التحرير: عادل صبري 09:05 مساءً | الاثنين 07 يوليو 2025 م | 11 محرم 1447 هـ | الـقـاهـره °

كيف نبعد شبهة الفساد عن الجيش؟.. الصين نموذجًا

كيف نبعد شبهة الفساد عن الجيش؟.. الصين نموذجًا
27 ديسمبر 2016

كيف نبعد شبهة الفساد عن الجيش؟.. الصين نموذجًا

عادل صبرى

كيف نبعد شبهة الفساد عن الجيش؟.. الصين نموذجًا

 

الكلام عن الجيش من الأمور المحظورة وفقًا للعرف السائد في مصر، وخاصة هذه الأيام حيث الحديث عن أي أمر متعلق بالقوات المسلحة من المحرمات. هذا العرف فرضته ظروف سنوات طويلة من الحروب لدواعي السرية، ووجود هاجس لدى الجميع بألا نثير أي كلام حول الجيش، خوفًا على الأمن القومي للدولة.

 

جيوش العالم بأسره تدير شبكات واسعة في دنيا المال والأعمال، ولكن الهدف الأول ليس لإعانة رئيس أو تحقيق مكاسب مالية أو دعم السلطة في أيدي فئة ما.

 

وخلقت هذه الأعراف واقعًا شهدناه على مدار سنوات طويلة، في كل الصحف ومؤسسات الدولة، وبخاصة البرلمان، حيث تتحول المناقشات حول أمر يخص القوات المسلحة، إلى ساحة مزايدة شديدة الاتساع. فلم نجد نقاشًا حقيقيًا يخصه، في الجلسات العامة أو اللجان المختصة إلا ويقع السباق بين نواب الحكومة والمعارضة، وعلى رأسهم الإخوان، لدرجة التزيد في الكلام والتصفيق المبالغ فيه لأي شيء تطلبه وزارة الدفاع.

 

عندما يصبح الكلام المحظور بالقوة مباحًا على الملأ فالأمر جد خطير، وعندما يأتي هذا الكلام على الهواء مباشرة من رئيس الجمهورية على الملأ، فهناك أمر جلل يدعونا إلى ضرورة الاستماع إليه ومناقشته بجدية. فلأول مرة يتكلم رأس الدولة والقائد الأعلى للقوات المسلحة عن مشاركة الجيش في إدارة اقتصاد الدولة، ويقول  بملء فمه: "ياريت كانت نسبة الجيش 50% من الاقتصاد بالدولة". ونفى الرئيس أن يكون امتلاك القوات المسلحة ما بين 20% إلى 50% من الاقتصاد القومي بالدولة، منوها إلى أنها تتراوح ما بين 1.5% إلى 2% من الاقتصاد القومي.

 

كلام القائد الأعلى للقوات المسلحة، صدر عنه وهو يفتتح توسعات مشروعات شركة تابعة للقوات المسلحة، وعلى يساره رئيس الأركان وخلفه عشرات اللواء والمسئولين. لو توقف الأمر على تصريحاته، لاكتفينا بسمع عابر، أما أن تتحول تلك التصريحات على مدى يومين إلى مادة مناقشة مفتوحة في البرامج التلفزيونية والإذاعية، خاصة التي تُدار عبر مكتب الرئيس فهو أمر يستدعي أن يدلي كل مصري برأيه فيه، حتى لا تتحول إلى ساحة يديرها طرف واحد، وتوجيهات تأتي من أعلى لأسفل فقط، لا سيما أن التصريحات لاقت صدى في مؤسسات الإعلام الدولية التي تبارت هي الأخرى بمناقشة القضية، فأظهرت الجانب السيئ من الأمر.

 

فقد اتهم كُتاب كُبار في الصحف الأجنبية الجيش بأنه يريد السيطرة على اقتصاد الدولة، مشيرين إلى امتلاكه ما يتراوح ما بين 30% إلى 40% من الاقتصاد القومي. وذكرت وكالة أنباء رويترز في تقرير موسع وزعته في أنحاء العالم منذ يومين "الوزن الاقتصاد للجيش الذي ينتج كل شيء من الماء إلى المكرونة، طالما كان مادة للتكهنات في مصر، لكن التعليق الرسمي على حجم الأنشطة الاقتصادية للمؤسسة العسكرية أمر نادر الحدوث". وأشارت الوكالة إلى دراسة أعدتها شانا مارشال مساعد مديرة معهد دراسات الشرق الأوسط، ونشرها معهد كارنيجي في 2015، من 30 يونيو والإطاحة بمرسي، أثبتت القوات المسلحة المصرية أنها الحكم الأخير في النظام الاقتصادي والسياسي في مصر".

 

هذه الكلمات هي بعض مما كثر نشره تحت عناوين ضخمة تبدأ بـ "إمبراطورية الجيش" وانتهاء بالرسوم الكرتونية الساخرة من دخول القوات المسلحة في إنتاج المربات والمخللات وتوزيع السكر والشاي وغيرها على المواطنين في الميادين ومنافسة المقاولين في مشروعات الطرق والمباني. وربما تكون هذه التقارير مسربة من بعض رجال الأعمال وثيقي الصلة بالصحافة الدولية، الذين يعانون من منافسة شرسة من جانب شركات القوات المسلحة، مما دعا بعض الدول الأجنبية تربط مساعداتها لمصر بإبعاد الجيش عن الأعمال الاقتصادية التي تنافس وكلاءها في مصر.

 

في كل الأحوال لم تكن كلمات رئيس الدولة آتية من فراغ؛ فعالم الأعمال بلا قلب والوطنية في عالم البيزنس تتعلق بالعائد والمنفعة، لذلك جاءت كلماته رسالة للخارج قبل الداخل بأن الجيش لا يملك إمبراطورية وإنما قدر ضئيل من الأصول المالية التي يدير بها شركات يعتبرها الرئيس سنده وعكازه الذي اشترط أن يتكئ عليه أثناء 30 يونيو وما بعدها، بين التهويل في الأرقام خارجيًا والتهوين منها داخليًا، يظل موقف المصري الطبيعي داعمًا للقوات المسلحة وقدراتها. فلدينا إيمان جماعي بأن القوات المسلحة هي السند والعمود الفقري في جسد الأمة وأن اعوجاج العمود الفقري في أية مرحلة أو مستوى يعني انحناء ظهر الأمة وسهولة ركوعها أمام أية أزمة طارئة. فإذا كان القائد الأعلى للقوات المسلحة يقول: "ياريت كانت نسبة الجيش 50% من الاقتصاد"، نقول نحن: "نتمنى أن يكون الاقتصاد الكلي للدولة بنسبة 100% في خدمة الجيش". وهناك فرق كبير بين أن يكون الجيش مالكا لشركات يديرها كمؤسسات ربحية وبين أن يكون مال الشعب كله وشركاته ومؤسساته في خدمة الجيش.

 

فالجيوش القديمة والحديثة قامت على أكتاف الشعوب، وإن اختلفت في أساليب إداراتها، فقوتها دومًا محصلة نهائية لما يملكه الشعب من رجال وعتاد وأموال وأفكار وعقيدة، عدا التجربة الرومانية والتركية. فالأولى قسمت الشعب إلى طبقات ثلاث؛ نبلاء هم الساسة والحكام والملاك، والجنود ممن يربونهم للقتال أو يستعبدونهم من طبقة النبلاء أو يرفعون شأنهم من درجة العبيد، ودرجة العبيد وهم باقي الناس من سكان البلاد أو الذين يسترقونهم في باقي المستعمرات.

 

الجيش الصيني ليس محظورا عليه الاستثمار، ولكنه يستثمر من خلال مئات الشركات في مشروعات متعلقة بمهامه الأصيلة، وهي صناعة السلاح وكل ما يرتبط بها من أبحاث ومنشآت وأفكار ودراسات.

 

وتتميز التجربة التركية بأنها أحالت الدولة كلها إلى جيش والسلطان هو الحاكم والمدير والمالك لكل شيء، ويعمل الكافة عنده في الجيش بداية من القائد العام للجيش حتى المزارع والطبّاخ والمؤذن، فهم يصرفون رواتب الميري ويعيشون في كنف الميري، ومن يفقد الميري فلا وجود له في كيان الدولة بأسرها، ومن هنا جاء قول "إن فاتك الميري تمرغ في ترابه".. هذه العقيدة ورثناها عن الأتراك بعد أن نفذتها الأسرة العلوية، منذ بداية عهد محمد على حتى إشهار إفلاس مصر في عهد الخديوي إسماعيل وتعيين لجنة بريطانية فرنسية لإدارة أملاك الدولة المصرية.

  

استعاضت الجيوش الحديثة بفكرة مؤسسات الدولة، للقضاء على ما أثارته الأفكار الرومانية والتركية من انفلات وتمرد وانقلابات وحروب وفساد. ووظفت سلطة القانون على الجميع، فلا ينفع مثلا أن يقول الرئيس: "نحن نحارب الفساد وعلى المشروعات التابعة للجيش أن تسمح لمحافظ الإقليم والجامعات والمسئولين الواقعة في نطاقها الجغرافي بأن يتدخل هؤلاء في الرقابة على أعمالها لضمان الشفافية". فلا ضمانة لشيء من هذا من خلال تعليمات شفهية أو حسب رغبة الجهة التي تتصرف في المال العام. فعلى سبيل المثال لا يستطيع محافظ إقليم ما أن يدخل منشأة عسكرية بدون تصريح، فما بالك إذا ما رغب في رقابتها ماليًا وإداريًا! ولا يستطيع البرلمان ولا الصحافة بالطبع المساس بأي أمر يخص القوات المسلحة صغر أو كبر، فقد عاصرنا ذلك سنوات طوالا، ولم يحدث ولن يحدث هذا الأمر وفقًا للقوانين الحالية.

 

من حق الرئيس أن يطلب من القوات المسلحة أن تقف معه لإنقاذ اقتصاد الدولة، وتعينه على القيام بمهامه التي وعد بها، ولكن من حقنا كمصريين أن نصون سمعة القوات المسلحة ونعين قيادتها على أداء مهامه على أكمل وجه، وأن نبعد عنها أية شبهات تطول سمعتها، لأن الرؤساء زائلون، ولن يبقى للدولة غير جيش واحد. ومن هنا ما علينا سوى أن نقدم المشورة بصفتي مصريا مُطّلعا على تجارب الآخرين، وأخشى أن يتحول الجيش إلى أداة للدعم السياسي لأي رئيس فيفقد رونقه وسمعته إذا ما أصبح هذا الرئيس عبئًا عليه وفاشلًا في أداء أعماله.

 

وقعت مصادفة غريبة، أن أناقش مع سفير الصين بالقاهرة سونغ آيقوه، في وجود وفد من قيادات الأحزاب المصرية قبيل ساعات من كلمات رئيس الدولة، عن أسباب قرار رئيس الصين شي جينبنغ إبعاد الجيش عن أية أعمال تجارية في الدولة أو الخارج. لم يندهش السفير الصيني من السؤال، بل استغرب رؤساء وممثلو الأحزاب المصريون السؤال واستكثروا أن نطلب العلم ولو في الصين.

 

جاء رد الرجل بسيطًا للغاية، حيث قال لي أمامهم: "الجيش يقوم بمهمة مميزة في البلاد، ولديه مهام جليلة للحفاظ على وحدة البلاد وقوتها، في وقت تترصد بنا قوى خارجية وقوى إرهابية تهدده في الداخل، والدولة تسعى إلى أن يكون الجيش حديثًا وعصريًا وقويًا وبعيدًا عن الفساد، لذلك قرر الحزب الشيوعي الحاكم وعلى رأسه الرئيس شي شينبنغ أن يبعد أية شبهة فساد عن الجيش بعد أن أقال عددًا من قياداته مؤخرًا تورطوا في عمليات فساد، فالإجراءات المميزة اتُّخذت لحماية مؤسسة مميزة وهي الجيش لضمان تفرغه لمهامه الرئيسة، وتفوقه".

 

ببساطة أنهى سفير الصين كلامه، ووسط دهشة الزملاء المصريين، كانت تقارير تأتي إلينا من بكين بأن الجيش الصيني حصل على دعم مالي كبير من الحزب الشيوعي وأصبح يمتلك أكبر ثاني موازنة عسكرية بعد الولايات المتحدة، وفي سبيله لبناء عدة حاملات للطائرات وعشرات الغواصات والأهم امتلاك تكنولوجيا خاصة رفيعة المستوى لإدارة حرب في الفضاء أو أعالي البحار وأي بقعة في العالم، بعد أن كان يعتمد على تهريبها من روسيا أو تسريبها من إسرائيل أو سرقتها من الغرب بأية وسيلة، لخدمة أهدافه الاستراتيجية.

 

الجيش هنا ليس محظورا عليه الاستثمار، ولكنه يستثمر من خلال مئات الشركات في مشروعات متعلقة بمهامه الأصيلة، وهي صناعة السلاح وكل ما يرتبط بها من أبحاث ومنشآت وأفكار ودراسات، يديرها بنفسه وعبر وكلاء وشراكات محلية ودولية، ولكنها لا تتعلق بأي شأن تجاري يرتبط بالحياة المدنية إلا فيما يخص مواجهة الكوارث والطوارئ الطبية التي تقع في نطاق مهامه.

 

وكم نشرنا في هذا الموقع عن أسباب التحول الفكري لدى قيادة الدولة الصينية في منع الجيش من التوغل في التجارة، بعد أن كان العمود الفقري في مرحلة التحول الصناعي بالدولة، بعد أن اكتشف المسئولون كمّ الفساد الذي ارتكبه بعض القادة الكبار، وغيرهم من آلاف العاملين الذين اعتقدوا أنهم يملكون دفة الأمور في الدولة ولا رقابة عليهم، فإذا برجال الدولة يكتشفون أن ترك الحبل على الغارب والتمسك بشعارات جوفاء يهدر أموال الدولة ويعرض جيشها لخطر عظيم.

 

هذه الأفكار الجريئة تتماشي مع رغبة الصين في جعل الجيش قوة عسكرية محترفة، وامتلاكه أسلحة لغزو الفضاء وشركات تخطط للوصول بالبشر إلى المريخ، وصواريخ حقيقية لإدارة شبكة أقمار صناعية حول الأرض وليست مثل الصواريخ "المضروبة" التي أوهمنا الشعب بامتلاكها قبل نكسة 1967.

 

جيوش العالم بأسره تدير شبكات واسعة في دنيا المال والأعمال، ولكن الهدف الأول ليس لإعانة رئيس أو تحقيق مكاسب مالية أو دعم السلطة في أيدي فئة ما، وإنما تعمل وفقًا للدستور والقانون، ومشروعات سرية أو معلنة تستهدف رفع شأن القوات المسلحة والحفاظ على قوتها وتفوقها وتوسيع دائرة أسواقها الدولية في مجال الصناعات العسكرية والتكنولوجية. ولذلك تعتمد الجيوش على ما توفره الدولة من نفقات لتمويل هذه المشروعات، فلولا الدعم المالي الذي يقدمه الجيش الأمريكي من خلال الموازنة العامة للشركات الخاصة لامتلاك أفكار جديدة وتكنولوجيا لغزو الفضاء وبناء أحدث المعدات العسكرية، ما أصبحت أمريكا القوة العسكرية الأولى في العالم. فقوة أمريكا ليست في جيشها ولكن بمجموع مؤسساتها العلمية والبشرية والعسكرية والمالية، لذلك ستواصل مهمتها بينما تراجعت روسيا إلى المركز السابع عشر اقتصاديًا لأنها أدارت الجيش وفقًا للمبدأ التركي نحو 75 عامًا، والآن وفقًا للمنهج الروماني حيث ينقسم الشعب إلى صفوة وعبيد.

 

نرفض أن يتوقف الجيش عن امتلاك مؤسسات اقتصادية، تلعب في حدود 2% في اقتصاد هش لا يزيد ناتجه الإجمالي عن 4 تريليونات جنيه، ولكن يجب أن يكون لدينا البصيرة بأن تكون تلك المؤسسات في خدمة الجيش وأهدافه العليا، ومتفرغة لدعمه وتقوية شوكته، بالصناعات العسكرية التي ترهب أعداءنا المحيطين بنا من كل صوب، ولا تدفعنا إلى الوقوع في شباك الضغوط الأمريكية أو الروسية وغيرهما. والقانون يسمح بأن يطلب من أي جهة مدنية أن توفر له التكنولوجيا والمعدات التي تمكنه من أداء مهامه وعدم تصدير ما يحتاجه إلى الخارج بدون علمه أو إرادته.

 

من حق الرئيس أن يطلب من القوات المسلحة أن تقف معه لإنقاذ اقتصاد الدولة، وتعينه على القيام بمهامه التي وعد بها، ولكن من حقنا كمصريين أن نصون سمعة القوات المسلحة ونعين قيادتها على أداء مهامه على أكمل وجه.

 

وكما نريد حماية الجيش، باعتباره ذراع الدولة القوي، يجب ألا يخوض فيما يمكن أن يوفره القطاع الخاص ببساطة، لأن الدستور حمّل القطاع الخاص مسئولية توفير جل فرص العمل بالدولة لملايين الشباب والخريجين، وأيضا دفع الضرائب التي تمكن الجهاز الإداري وجيش الدولة من القيام بمهامه على أكمل وجه.

https://ssl.gstatic.com/ui/v1/icons/mail/images/cleardot.gif

  • تعليقات فيسبوك
  • اعلان

    أحدث المقالات

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    محمد إبراهيم

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    السيئ الرئيس!

    سليمان الحكيم

    السيئ الرئيس!

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    علاء عريبى

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    تامر أبو عرب

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    ما جريمة عادل صبري؟

    يحيى حسين عبد الهادي

    ما جريمة عادل صبري؟

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    أميمة أحمد

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    محمد إبراهيم

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    عادل صبري حفيد النديم

    سليمان الحكيم

    عادل صبري حفيد النديم

    عادل صبري وترخيص الحي!

    علاء عريبى

    عادل صبري وترخيص الحي!

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية

    السيد موسى

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية