الجريمة مستمرة على جزيرة الوراق
عادل صبرى
الجريمة مستمرة على جزيرة الوراق
لم تعرف جزيرة الوراق هدوءا منذ أسابيع، فالأهالي مستنفرة، في كل بيت وحارة في الجزيرة الصغيرة، منذ أن وطأت جحافل الشرطة والبلدوزرات أرض الجزيرة الوديعة، الشهر الماضي.
الناس خائفون أن تعود القوات مرة أخرى، لتنقض على البيوت هدما فتشتت أهلها، ولهم حق في ذلك. فمحافظ إقليم الجيزة صرح قبل أن يغادر الجزيرة مع قواته، أنهم عائدون، دون أن يحدد وسيلة العودة أو موعدها. وكشفت الحكومة عن وجود خطة شاملة للجزيرة لتحويلها، كما ذكر الدكتور مصطفى مدبولي وزير الإسكان والتعمير الأسبوع الماضي، بأنهم عازمون على تحويل الجزيرة إلى " زمالك جديدة". كلمات الوزير دعمت ما قاله رئيسه عبد الفتاح السيسي من قبل بأن الدولة تملك خطة لتطوير الجزيرة وغيرها من الجزر المنتشرة وسط نيل القاهرة بداية من جزيرة الدهب ومحمد في الجنوب امتدادا إلى الوراق وغيرها.
تصريحات الوزير والمحافظ ورؤسائهما واكبها تهديد ووعيد، بأن الشرطة إذا ما عادت إلى جزيرة الوراق، فلن يقدر أي شخص على التصدي لها، لأنه بذلك يكون خارجا على الدولة والقانون، ومهددا لأمنها معتديا على رجالها!!. كلمات التهديد واكبها قولا لينا من رئيس الوزراء الذي أمر قوات الأمن بالعودة إلى ثكناتها لحين دراسة الموقف في الجزيرة، بعد اعترافه بأن بعض المواطنين لديهم حقوق ملكية للأراضي وحاصلين على تراخيص رسمية بالبناء، لذلك غطى الكلام الخشن على الموقف اللين من رئيس الوزراء. الناس خائفة ولم تعد تثق في أن آلة الهدم لن تعود إلا لإزالة المباني المخالفة فقط، بعد أن رأوا بأم أعينهم أن الحكومة جاءت بقواتها في غفلة منهم وهدمت منازل واعتدت على مواطنين، لمجرد أنهم أشهروا سندات الملكية وتراخيص المباني في وجه القوات وكبار المسئولين عن تنفيذ أوامر عليا صدرت بشأن هذه الجزيرة.
انعدام الثقة هو مربط الفرس بين الناس والدولة حاليا، فالمشكلة أظهرت أن الدولة تملك خطة لم تكشف عن تفاصيلها لهم، والناس لا تريد إلا الستر والاحتماء بمأوي يقيهم شر الأيام وأراذل البشر، وجاءت الحكومة في غفلة تريد أن تزيل ما يسترهم ويحمي أعراضهم، بدون تفاهم. لو كنت في موقع المسئولين لتوقفت عن التصريحات حول جزيرة الوراق تماما، خاصة الكلمات الغبية واللغة الخشبية التي تعامل الناس ملاك البيوت والأرض كالعبيد كأنهم يعملون في قشلاق أو مماليك في عصر قنين الأرض.
لن تعود الثقة بين المواطنين والدولة دفعة واحدة، لأنها تعرضت لشرخ خطير وحادث فجائي أثر في صلب العلاقة بين الدولة والموطن. فالدولة في نظر المواطن هي الحامي والسند الأخير الذي يلجأ إليها في عظائم الأمور. وهذه هي روح الدولة التي فقدها الناس في هذا الموقف، وهي التي لم تغب عنه في مثل هذه الأزمة من قبل.
لقد ظهرت أزمة الجزر في العقد الماضي، حينما رأي الدكتور إبراهيم سليمان وزير الإسكان، عند إزالته كوبري أبو العلا المعدني أن يبدأ مشروعا لتطوير مجري نهر النيل والجزر والكورنيش المحيط به، ليحول الجزر إلى مشروعات عمرانية فاخرة، ويحيطها بسياج جمالي أسوة بما هو موجود في أوربا ونيويورك. صادفت المبادرة هوى لدى كل صناع القرار وتحمس لها فريق كبير من الوزراء والمسئولين بما فيهم القوات المسلحة التي رأت ضرورة الاستفادة من تلك الجزر في تطوير المجري الملاحي لنهر النيل وتسريع مشروعات النقل النهري لتخفيف الأعباء عن الكباري والشوارع التي لن تتحمل كثافة المرور في العاصمة خلال السنوات القادمة.
ارتكب إبراهيم سليمان نفس الجريمة التي وقعت في جزيرة الوراق، حيث فاجأ المواطنين في جزيرة القرصاية بحملات الإزالة، وبدأت المناوشات الأمنية ومحاولات الهدم التي تصدى لها الناس بكل السبل. ولما كان الإعلام يتمتع بحريات معقولة في عهد مبارك كان الناس على علم بما يدور في تلك المعركة التي انتصر فيها القرار لصالح الشعب ولو إلى حين، باستمرار الوضع على ما هو عليه وأن يقتطع جزءا من الجزيرة للقوات المسلحة التي وضعت يدها على بعض منها وجزر أخرى تشكلت حديثا أمام مستشفى المعادي للقوات المسلحة.
توقف الحملات ضد المواطنين لم يكن مصادفة، خاصة أن وزراء ونواب ورجال أعمال كثيرين عارضوا طريقة التنفيذ التي سعى إبراهيم سليمان إلى فرضها بالقوة. ولم أكن على علم بما يدور من تفاصيل داخل دهاليز الرئاسة ومجلس الوزراء إلا مؤخرا بعد أن جلست مع الفنان فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق، الذي بنى فيلا على شاطئ جنوب الجيزة وأراد تحويلها إلى متحف يهديه للدولة، وعلمت أن حملة الإزالات التي وقعت مؤخرا طالت الفيلا التي اشتراها منه أحد كبار رجال الأعمال العرب، وما آل إليها من تدمير في الوقت الذي تجاهلت فيه الحملة فيلات أخرى تقع بجوارها مملوكة لرجل الأعمال محمد أبو العينين وغيره، مع الفارق أن الوزير حصل على التصاريح اللازمة للبناء في حينه بينما الآخرون لا يملكون هذه الميزة نهائيا.
أفصح الوزير عن بعض المناقشات الساخنة حول الجزر في اجتماعات مجلس الوزراء بأنه كان من المتحمسين للمشروع، ولكن رؤيته للتنفيذ كانت تختلف تماما عما أراده إبراهيم سليمان. وهنا يظهر الفارق بين مقاول تشييد ورؤية الفنان الحالم بالجمال، فالمقاول أراد تنفيذ الإزالات بالقوة وأن تمحو الدولة البيوت والمنشآت الواقعة على الجزر، بحيث تسلم لرجال الأعمال الأجانب أو المصريين خالية تماما من السكان وكل الأشياء ليسهل إعادة توظيفها في أي منشآت، وأن تصبح على غرار مانهاتن في نيويورك وجزر الإمارات.
أراد الفنان أن توظف الجزر بما عليها من بشر وإمكانات، وأن تستغل طاقات الناس الموجودة في تعمير الجزر، بأن يحدد جزءا من الأرض لمشروعات جديدة تخطط لها الدولة وتشرف على تنفيذها وفقا لمتقضيات الحاجة والدراسات البيئية، بينما يمارس الناس أنشطتهم الريفية، ويساعدون في بناء وخدمة المشروعات الحديثة، مع مشاركتهم في الملكية واقتسام الغنائم المترتبة على هذا التحول مع أي جهة تضع استثمارات في هذه الجزر.
رؤية الفنان أيدها كثير من أهل الخبرة في المجالات الهندسية، خاصة غير المرحبين بإسلوب إدارة إبراهيم سليمان الذي اشتهر بسلاطة اللسان والعنف مع غيره عند مناقشة هذه الأمور مستندا إلى ما كان يقدمه من تسهيلات لكثير من المسئولين السابقين. وحسب علمي أن هيئتي المعونة الألمانية والفرنسية مولتا دراسات بحثية مطولة حول تطوير العاصمة ومن بينها مشروعات العشوائيات والجزر وخاصة الوراق وغيرها ومناطق الحكر المطلة على نيل بولاق وماسبيرو، انتهت جميعا إلى ضرورة أن يكون للناس دور في مشروعات التنمية وإلا فقدت كل هذه المشروعات قيمتها الحضارية والإنسانية.
الدراسات موجودة في مكتب وزير الإسكان، فقد كان شريكا فيها حينها بصفته مستشارا فنيا لوزير الإسكان الأسبق إبراهيم سليمان وعميدا لكلية التخطيط العمراني في نفس الوقت. ونعلم أن أساتذة من جامعات القاهرة وعين شمس ومن ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة، وأغلبهم كتب دراسات مطولة في ذلك، يحدد معالم لتطوير هذه الجزر بما يحفظ حقوق الناس في الحياة الكريمة والملكية، ويضمن تطوير الجزر لتصبح أفضل من الزمالك، من ناحية الجمال والتخطيط العمراني، وأيضا وصول كافة الخدمات العامة للمواطنين ويمنع التلوث في نهر النيل، ويربطها بمجموعة من الكباري والأنفاق، مع شاطيء نهر النيل، لتتحول إلى مزار سياحي ومقار لأنشطة الشركات العالمية.
هذه المعلومات في أدراج المسئولين الذين يعلمون أن الإفراط في القوة وراء فشل المشروع الأولي، وتسبب في خوف المواطنين من تنفيذه. ويمكن للمسئولين الحاليين ولكافة الناس أن يطلعوا على الدراسات الخاصة به بالعربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية، في كل من مكتبة البرلمان ولجنة الإسكان بمجلس الشعب ومكتبات جامعة القاهرة والألمانية والأمريكية، ووزارة الثقافة التي حصلت على منح دولية في عهد فاروق حسني لتجميل القاهرة الخديوية وقاهرة المعز وعملت على تمويل دراسات تطوير نهر النيل وشواطئه.
لدينا خطط قائمة وحلول ناجعة شارك فيها العلماء، إذن .. لماذا انهارت الثقة بين الناس والدولة إلى هذا الحد؟!. هذا ما يجب أن تجيب عليه الدولة بكافة مؤسساتها. فما يقع في جزيرة الوراق .. جريمة!.. نعم جريمة في حق العلم والناس والوطن!. فطالما لدى الحكومة خطط علمية مدروسة، أنفقنا عليها الملايين، لماذا لا تعلنها صراحة للأهالي لعلهم يكونوا أول من يحفز الدولة على استكمالها، أما أن يظل الأمر غامضا إلى هذا الحد، وينام الناس في بيوتهم وهم قلقون أن تقفز آلات الهدم على مضاجعهم وتلاحقهم وأبناءهم قوات الأمن، فهذا ما يخشاه أهل جزيرة الوراق وغيرهم من سكان الجزر النيلية، الذين لا يملكون من فتات الدنيا سوى بيوتا متواضعة تأويهم وأحلاما بسيطة تعينهم على مواصلة الحياة. بغير ذلك لن تستطيع أجهزة الدولة إسكات الناس عن حماية بيوتهم، ولن ترهبهم تهديدات المسئولين ولن تخيفهم الكلمات الخشبية والتصرفات العنجهية، فليس لدى هؤلاء البشر ما يخافون عليه سوى بيوتهم وكرامتهم، وستكون الدولة هي الخاسر الأكبر في المعركة، فلا استثمار بدون بشر ولا استثمار بدون أمان وشعب يحميه.
