
السـيسي لا يسدد فواتير "مركب الموت"
عادل صبرى
السـيسي لا يسدد فواتير "مركب الموت"
عدة ليالٍ قضاها أهالي ضحايا "مركب الموت" على شاطئ مدينة رشيد، لا يسمع المرء إلا نواحا وعويلا على الشباب والأطفال والغرقى بالعشرات.
المشهد يعصر قلب الحجر قبل البشر؛ فما شاهدناه بالصوت والصورة على الهواء مباشرة عبر الفضائيات العربية والدولية، وما نقلته بعض المواقع المحلية، يندَى له الجبين.
لفتت الأنظار لقطة لا تخطأ عين المرء عندما رأينا أحد الجنود يجرّ شابًا من الناجين وفي يده "كلابش" حديدي، ويلقى به على الساحل، كأنّه كومة من القمامة أو حيوان أجرب يخشى هروبه من الحَجْر الصحي، حيث بدت روائح نتنة تنتشر مع بداية تحلُّل الجثث الملقاة على الجوانب.
في الظلمة المعتمة، صرخ رجل بصوت عالٍ "يا سيسي.. تعالي لي.. عاوز أعرف ابني بين الغرقانين أم المحبوسين.. عاوز أطمن.. بقالي ٣ أيام مش عارف عنه حاجة.. كل اللي عرفته أن مراته وبنته غرقوا وابني مش عارف مصيره إيه، العسكري مانعني من شوف الجثث رغم أني بوست رجليه".
صرخة الرجل انطلقت في نفس الوقت الذي وصلت فيه الطائرة الرئاسية من نيويورك حاملة عبد الفتاح السيسي والوفد المرافق له.. من المؤكد أن الصرخة القوية لم تصل موجاتها إلى الطائرة الرئاسية والمرافقين لها من رجال الإعلام الملاكي، لذلك ضاعت الصرخات سُدى في أجواء شاطئ رشيد الهادر الحزين.
مرّت الساعات الكئيبة والحكومة لا تهتم إلا بإذاعة الأخبار التي تحمل الهاربين مسئولين المصيبة، بل تعالت أصوات تريد محاسبة أهل الهاربين على عدم الإبلاغ عن" جريمة " أبنائهم لأجهزة الأمن، وحملت الجثث على نفقة أصحابها الفقراء، ومن عاش اقتيد إلى أمن الدولة.
المشهد برُمّته، دفع الناس ونحن معهم إلى القول: أين السيسي من هؤلاء البسطاء المكلومين، أليس هؤلاء من وعدهم بأنهم سيحنو عليهم، وأنهم "نور عينه"؟!. ألم يكن هؤلاء البسطاء هم الذين صدقوه وتشيّعوا له وخرجوا معه كما يقول بالملايين، للقضاء على حكم الرئيس السابق بقوة الحشد والسلاح، وطلب منهم شرعية لا يعون قيمها ولا يعرفون مهيتها، فناصروه، ومنهم من تصادم مع أهل بيته أو جيرانه أو عشيرته من أجل نصرة السيسي؟!.
بدا المشهد أكثر بؤسًا حينما راجعنا ما عاد به السيسي من نيويورك، فالرجل وجوقته الذين ذهبوا إلى الولايات المتحدة غاضبون عليها، بسبب ما يعتقد أنهم فيهم بأنهم يدعمون الرئيس السابق الملقى به في غيابات السجن، ولا يفوت من معه فرصة إلا وكالوا الاتهامات لها كيلا، عاد منشرح الصدر، فها هو السفير عبد الرؤوف الريدي مساعد وزير الخارجية الأسبق ورئيس المجلس المصري للشئون الخارجية يقول في تصريحات لجريدة "الحياة" اللندنية الصادرة السبت ٢٤ سبتمبر: "إنّ القاهرة تراجع علاقتها بالولايات المتحدة بعد تأكدها من أن واشنطن ستدعم السيسي خلال المرحلة المقبلة".
وأثبتت الأحداث التي شهدتها نيويورك ولقاء وزير الخارجية المصري مع الجالية اليهودية، أن واشنطن، راضية عن النظام الحالي بنفس رضاها عن أي نظام مصري، طالما يحقق لها مصالحها السياسية في المنطقة، وأنّ الرضى هذه المرة جاء تاما، من بعد الدعم القوى الذي يمنحه اللوبي اليهودي للنظام المصري وعلى رأسه عبد الفتاح السيسي بسبب التنسيق التام بين مصر وإسرائيل والذي ظهر جليًا خلال العامين الأخيرين في النواحي العسكرية والسياسية والاقتصادية والتوافق على المستوى الإقليمي.
إذن مصر في مرحلة جديدة، مع الدولة التي كانت تدّعي كراهيتها وأنها تريد الفكاك من هيمنتها، مما دعاها إلى التوجه شرقا إلى الصين أحيانا وكثيرًا إلى روسيا، والهند وغيرهم. هذه التحولات تدل على أن السيسي اعتاد تسديد الفواتير. فقد سدد لدول الخليج التي ساندته فواتير المشاركة في التحالف العربي ضد الإرهاب، ودخلنا معهم حربًا على داعش ودعمًا للقوات السعودية والإماراتية في اليمن، ومنح السعودية تيران وصنافير، وهذا لم يمنع خلافه مع السعودية حول مصير نظام بشار الأسد الذي قتل وشرد نصف شعبه، في حرب أهلية طاحنة. وسدد للإسرائيليين فاتورة دعمه دوليًا، بالتنسيق معهم في الحرب على أنصار بيت المقدس في سيناء، وملاحقة حماس محليًا ودوليًا، وبلغ التنسيق حده بأن يفتخر الإسرائيليون بأنه الصديق المفضل لديهم الذي لم يُخْلَق مثله في البلاد.
إذن السيسي يسدد الفواتير بسخاء في الخارج، لدرجة دفعته إلى القول لشبكات الإعلام الأمريكية، إن مصر لا يحكمها ديكتاتور لأن بها دستور ديمقراطي يحقق العدالة بين الجميع ويحول دون وجود رئيس في منصبه بالقوة بعد المدة المحددة له. كما تفاخر بقوله: "لا قيود على الإعلام"، وهي كلمة نعلم تماما كيف أنها تسير عكس الواقع الذي نعيش في ظله حيث نحيا تحت التهديد الأمني والحصار الاقتصادي.
هذه القدرة على السداد السخي دفعتنا للتساؤل: لماذا يسدد السيسي ورجاله الفواتير للأجانب بسرعة، بينما يترك الذين دعموه يبكي رجالهم كما النساء، وتَعْوِل نساؤهم الثكالى، حتى تبيض عيونهن، ويترك أهلهم مشردين ما بين الملاحقات الأمنية والبحث عن الجثث في أعماق البحار ومشرحة المستشفيات؟!
قد يظنّ السيسي أن الناس نسيت الوعود التي قطعها على نفسه، ولكنه يعلم تمامًا أن ذاكرة الشعب من حديد، فهي قد تنسى المعروف في لحظة، ولكنها لا تنسى الأسى في أية لحظة. ربما لا يعلم بأنّ المشي في جنازة لدى المصريين أفضل من السير في "جوازة"؛ لأنهم يعتقدون أن المشاركة في الأحزان أهم، فالناس تحتاج إلى من يشدّ على يدها في المصائب وتحب من يشاركها في تحمل الأعباء.
وربما أنه فقد الاهتمام بالناس، بعد أن أمّن مكانته لدى واشنطن ولعلمِه أن أوروبا تريد من يمنع عنها قوافل الهجرة غير الشرعية عبر البحر المتوسط، بأي ثمن ولو كانت حاملات ميسترال، أو لأنه يعلم أن الطبقة الوسطى في البلاد من رجال "حزب الكنبة" ومن على شاكلتهم قد يأسوا من أي محاولات قادمة للتغيير، وتسليمهم بأن الحاكم الديكتاتور المؤيد من الجيش أفضل لهم من أن تتحول البلاد إلى سوريا أو العراق، ولكن هل هذا التأمين يكفي بأن يتجاهل السيسي هؤلاء المساكين المكلومين؟!.
لا أدري من ينصح السيسي، ولكن عليهم أن يقولوا له إن بسطاء رشيد المصابين في أعزّ ما يملكون هم الأغلبية الكاسحة في البلاد؛ فهؤلاء ينتمون للشريحة الكادحة، التي يحاصر الفقر "الدكر" بطونهم، وليس لهم باع في السياسة ولا غيرها، لذلك يشدون الرحال أينما يجدون لقمة العيش، وإن كانت مغموسة في الدم أو الموت.
هؤلاء نسبتهم التي يعملها تزيد عن ٥٠٪ من تعداد المصريين، الذين لم يحصلوا على حظهم من التعليم وخالي الوفاض من الثروة والجاه، أي ليس لديهم ما يبكون عليه، فقط هم يخافون من بطش السلطة ويبتعدون عنها بشتى الطرق.
وبقدر ضعفهم فلا يأمن المرء غدرهم؛ لأنهم يتصرفون بتلقائية ولا يمكن السيطرة على أفعالهم، وعندما يشعرون بالقهر، لا يرون في الدنيا إلا الظلام والظالمين، فهؤلاء لم يلجأوا إلى البحر إلا بعد أن فقدوا الأمل في العيش الكريم داخل وطنهم، وشاهدوا غيرهم بالملايين عاطلين يكتوون بلهيب ارتفاع الأسعار وموجات الغلاء وشح السلع وانتشار الفساد.
مركب الموت في رشيد لم يتسع لشبابها فقط، بل أصبح أحد المشاهد اليومية في مصر، حيث يسلك ١٠٪ من الهاربين إلى أوروبا سنويا نفس الطريق، وهناك ملايين ينتظرون الفرصة السانحة للسفر، بعد أن فقدوا الأمل، وهم في كنف رئيسهم وحكومتهم وأهلهم، فكيف لا يفكر السيسي بأن يسدد لهم الفواتير بعُجالة، كما فعل مع أوروبا وواشنطن وإسرائيل؟