
كيف أسقط الشعب الانقلاب في تركيا؟ (10 حقائق)
عادل صبرى
كيف أسقط الشعب الانقلاب في تركيا؟ (10 حقائق)
منذ اللحظات الأولى للانقلاب العسكري في تركيا، عشية أمس، تعلقت عيون الدنيا بشاشات التلفزيون لمعرفة مصير دولة ونظام له من الأعداء والحساد ما يفوق أنصاره ومحبيه.
كثيرون تعجلوا الأمر، ووصفوا الانقلاب بأنه ثورة ضد أردوغان، وصدرت تعليمات، بأن تكون عناوين الصحف اليوم "الجيش يطيح بأردوغان ويسيطر على الحكم".. وهناك من رقص في الميادين فرحا. وتعجلت فضائيات عربية وأعلنت سيطرة الانقلاب على الحكم، وهروب أرودغان لألمانيا.
ما بين الشماتة والأكاذيب انطلقت الصحف والقنوات العربية والدولية، خاصة مع سيطرة قادة الانقلاب على رئاسة أركان الجيش والتلفزيون التركي الرسمي.
فات الكثيرون أن يتوقفوا للحظة ليعلموا هل سيكتب النجاح لهذا الانقلاب من عدمه؟! حالة الانقسام في الرؤية، ما بين آملين في دحر الانقلاب وشامتين تمنوا القضاء على أردوغان ومن حوله إلى الأبد، ضاعت حقائق كثيرة، دفعتنا لمتابعة كافة الأحداث حتى عقد البرلمان جلسته التاريخية الطارئة مساء اليوم، وإعلانه انتهاء الانقلاب رسميا.
نخرج من المواقف هذه بعدة مؤشرات تبين كيف أسقط الشعب انقلابا غير عادي اُستخدمت فيه الطائرات والبوارج الحربية لأول مرة في تاريح الانقلابات التركية التي تقع عادة كل 10 سنوات.
الحقيقة الأولى
الشعب التركي عاش في ظل انقلابات عسكرية بدأت مطلع الستينيات، وكلما بدأ نظام ديمقراطي ينقض عليه جنرالات الجيش، انطلقت عام 1960 وتعددت في أعوام 1971 ، 1980، 1997، ثم جاء الخامس في 15 يوليو 2016.
في كل مرة يأتي العسكر بدواعي الحفاظ على دولة سيادة القانون وتحقيق الاستقرار ومصالح الشعب، فإذا بهم يحولون البلاد إلى سجن كبير ويدخلون في معارك جانبية، وتحالفات عسكرية تهين كرامة الأتراك وتجعلهم لعبة في أيدي القوى الكبرى وإسرائيل، عدا ما ارتكبه العسكر من مجازر مع الأكراد والتيار السلفي والإخواني، والشيوعيين. فلم يذق الشعب طعما لحرية ولا مارس الديمقراطية وتعرضت البلاد للإفلاس عدة مرات، وأصبح كيلو الطماطم يُباع بما يوازيه من أوراق العملة الوطنية!
الحقيقة الثانية
دفعت معاناة الشعب إلى خيارات طويلة الأمد، وهي الاهتمام بالتعليم الأهلي والذي رعته بجدية جماعة عبد الله كولن، والجماعات المحسوبة على الإخوان المسلمين، وذلك بهدف إحداث نقلة نوعية لدى المواطنين، إما للعمل في الداخل وتبوأ مناصب جيدة أو العمل الحر المميز أو السفر للخارج، فلم يبق في تركيا أميون إلا نسبة تقل عن 5% من سكان الوديان وأعالي الجبال. أصبح التركي يجيد لغات عديدة، لديه القدرة على السفر والعمل مع شركات دولية، وهذا الاحتكاك ولد طبقة من الأوتوقراط ورجال الأعمال الذين تحركهم مصالحهم الخاصة، بعيدا عن سلطة الدولة والعسكر.
الحقيقة الثالثة
اعتماد حزب العدالة والتنمية على كوادر شعبية ماهرة في تنفيذ مخططاته على مستوى المحليات والأقاليم، أوجد لهم شبكة من العلاقات المتينة مع الجماهير، الذين ارتبطوا معه بمشروعات أنجزت على أرض الواقع. فقد لا يعلم البعض أن هذا الحزب جاء للسلطة بعد خبرات اكتسبوها في العمل الشعبي والسياسي لعدة سنوات، ونجح في إدارة العديد من المدن، خاصة اسطنبول التي كان يُضرب بها المثل في العشوائية والقذارة والبؤس الاقتصادي، خلال الحكم العسكري.
ففي فترة أتاتورك الذي بنى العاصمة أنقرة، تجاهل اسطنبول، بعد أن كانت حاضرة الإمبراطورية العثمانية، لخمسمائة عام، فإذ بأردوغان يحولها إلى أهم منتجع سياحي وأهم مقصد استثماري في البلاد، والشرق.
ولم يأت أردوغان إلى السلطة أو استمر بها من فراغ، فالبلد المفلس أصبح دخله السنوي تريليون ومائة مليون دولار بما يوازي السعودية والإمارات وإيران، فارتفع دخل الفرد من 3500 دولار سنويا إلى 11 ألف دولار.. وقفزت الرواتب بمعدل 300% وارتفعت الأجور بمعدل 3 أضعاف، لأصغر موظف.
قفزت مؤشرات التنمية بتركيا من المركز 111 إلى 16 وانضمت لمجموعة العشرين الكبار خلال 10 سنوات فقط. أصبحت تركيا مصنعا عالميا للسيارات والطائرات والأقمار الصناعية والدبابات والفرقاطات. بنت الحكومة 125 جامعة لعدد سكان يقل عن مصر قليلا، وأصبح التعليم الجامعي مجانيا. سددت تركيا القروض التي استدانها العسكر، بلغت 47 مليار دولار، وتصدر حاليا بنحو 153 مليار دولار أغلبها معدات تكنولوجية وسيارات ومعدات عسكرية.
الحقيقة الرابعة
بدأ حزب أردوغان حالة التهدئة مع الأكراد ومنحهم لأول مرة حق تمثيل شعبهم في البرلمان، ورغم اختلافه معهم لم يطأهم بالدبابات أو يحرقهم بالنابالم، كما كان يفعل العسكر، ويلاحق المتظاهرين منهم برشاشات المياه.. ورغم انقسامه الشديد مع الإسلاميين التابعين لخصمه اللدود عبد الله كولن، لم يقتلهم أو يخفهم قسريا كما يفعل عسكر الانقلابات.
وداعب أردوغان الأتراك المتعصبين لجنسهم، بأن فتح أمامهم باب الأمل في إعادة الامبراطورية العثمانية، حيث رفض الضغوط الأوربية والدولية للاعتراف بمجازر أتاتورك والعسكر التي ارتكبوها ضد الأرمن، في عشرينيات القرن الماضي، وواجه الصلف الإسرائيلي بصلف مثله، وداعب الإسلاميين بمنحهم حرية ارتداء الملابس المحتشمة والحجاب في المدارس والجامعات والدوواين الرسمية في الوقت الذي وافق فيه على حرية المثليين والملحدين وأصحاب العقائد والديانات الأخرى، وهي أمور كان يواجهها العسكر بصرامة وشدة تصل إلى حد الضرب والسجن والتعذيب للمخالفين لهم.
الحقيقة الخامسة
إن كل الأمور السابقة صبت في صالح المواطن التركي فأصبح يمتلك التعليم الجيد والمال الوفير والمشروعات الدولية، والتجارة الرابحة، والقدرة على التعبير عن نفسه في إعلام خاص متحرر، من أغلب القيود التي يفرضها عادة الانقلابيون في تركيا وغيرها. فلم تعد المؤسسة العسكرية متحكمة في إدارة اقتصاد دولة يتصف بالضخامة والتطور السريع، أو تملك حرمان مواطن من التعليم والزج به في السجون بدون محاكمات عادلة. فرغم كراهية أردوغان للصحف وارتكابه أخطاء فادحة في حق وسائل التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيس بوك فإنه التزم بحكم القانون، حينما حكمت المحاكم ببطلان قراراته، وهي يا للعجب .. نفس الأدوات التي أنقذت رأسه من مقصلة الانقلاب، وأعادته للحكم بعد مداخلة مع قناة تلفزيونية وحوار عبر "سكايب" وكتابته على تويتر، حيث طالب الناس بالنزول للشوراع وإعلان رفضهم الانقلاب ودعم شرعيته الدستورية.
الحقيقة السادسة
وهي الأهم في القضية أن الأحزاب التركية أثبتت نضجها السياسي، فلم تتردد للحظة في دعم الشرعية والمسار الديمقراطي، حيث خرج أعداء أردوغان من أحزاب الشعب والقومي والجمهوريين لإعلان رفضهم للانقلاب، فاستجابوا لعقد الجلسة الطارئة للبرلمان والموافقة على عزل الآلاف من قادة الانقلاب ومعاونيهم في الجيش والشرطة والقضاء.
الحقيقة السابعة
الجيش التركي بلغ مرحلة الرشد، وأيقن أن الانقلاب العسكرية ولى عهدها وأن صلاح البلاد وقوتها، في وحدة كلمة الشعب، والحفاظ على مكتسباته، بحماية الشرعية، لذلك وقفت الأغلبية الكاسحة ضد الانقلابيين وأطلقت عليهم منذ البداية وصف "فئة قليلة متمردة"، بينما ظلت أغلبية قوات الشرطة في جانب الشعب وسيطرت على الشوارع، وأدارت عمليات الاعتقال للمتمردين.
الحقيقة الثامنة
الشعب التركي كان البطل في وأد الانقلاب بوعيه العام، حيث خرج للبحث عن ممثليه الشرعيين، قبل أن يظهروا على التلفاز، وتحدى بأجساده الدبابات في الشوارع، وعندما لبى نداء أردوغان بالنزول إلى الشوارع لم يحمل أي منهم صورا لأردوغان بل العلم التركي الذي تجمع الناس حوله، من كافة الأطياف السياسية، فأصبح الشعب يبحث عن مستقبله، واستقراره وحريته بعيدا عن التعصب لشخص زائل في يوم ما لا محالة.
الحقيقة التاسعة
أثبت الإعلام التركي أنه تاج فوق رأس شعب واع، فرغم المكائد التي تعرض لها من أردوغان وحزبه، والملاحقات التي وقعت لعشرات الصحفيين وكبار الكتاب، انتفض جلهم لرفض تعمية الشعب التركي وأصروا على نقل الحقائق من الحكومة، وبيانات الانقلابيين، وحركة الناس في الشوارع، فأصبح الناس على علم ما يجري حولهم، وتصرفوا بقرار من داخلهم، فلم يحركهم إعلام موجه أو أغلقوا قنوات المعلومات أمام الشعب. ومن فقد القدرة على ممارسة عمله ظل ينشر ما يتلقفه على وسائط التواصل الاجتماعي، والقنوات الدولية، فشهد الناس ما يجري في الشوارع على الهواء مباشرة، وكانت لهم الكلمة الأخيرة في كل أمورهم. واختتم المشهد بما رأيناه عندما كان يقبض الناس أو الشرطة على الانقلابيين، فلم نر عنفا مقابل النيران بل تسامحا ورغبة في إطفاء شهوة انتقام الغاضبين.
الحقيقة العاشرة
لقد أخطأ قادة الانقلاب خطئا فادحا، حينما أهانوا السلطة البرلمانية، بإلقائهم صواريخ من طائرات إف 16 على البرلمان، بما يبين إهانتهم للبرلمان، وهو السلطة الدستورية، التي يمكنها نقل السلطة من كيان لآخر، وهو الجرم الذي لم يغفره للانقلابيين كافة التيارات السياسية، فدفعتهم للتلاحم في مواجهة الانقلاب بصرامة.
***
راهن الانقلابيون على قوتهم وبطش أسلحتهم، وقدرتهم على إدارة الحروب بالطائرات والبوارج ودهس الناس بالدبابات، ونسوا أن الشعب التركي تعلم الدرس، وحان له الوقت أن يقول أنه لن ينسى هذا الدرس، وأنه لن يسمح بانقلابات جديدة للأبد.