
سميرة موسى.. الخرافة في ثوب علمي
عبدالناصر توفيق
سميرة موسى.. الخرافة في ثوب علمي
ثنائي الأساطير والعلوم الطبيعية الحديثة لا يجتمعان إلا في أذهان شعوبنا الشرقية. فالإسطورة هي مجرد خرافة لا يقوم عليها دليل منطقي. ومن سخرية القدر أن يجبرنا المجتمع على تجرعها، وان يتم حقنها في عقولنا بعد مزجها بنكهة علمية مضللة.
هناك أمثلة كثيرة على خرافات أصبحنا نتداولها كما نحفظ آيات القرآن العظيم أو نتذكر الموروثات الشعبية عميقة الحكمة متجذرة الدلالة. لكن القرآن العظيم ليس خرافة، وكثير من الموروثات الشعبية ليست إلا صدي لحكمة حضارية تحمل خلاصة تجارب أجدادنا على مر الأجيال. وهما معا – القرآن والموروثات – إرث ثمين لا يقدرهما إلا العلماء الأفذاذ، ولانريد أن نقترب من هذا أو ذاك.
لكن لنأخذ مثالا صارخا. سميرة موسى –رحمها الله – تقول الخرافة أن الموساد الإسرائيلي هي من قتلتها لأنها كانت أول "عالمة" في طريقها لتفتيت العناصر الثقيلة لإنتاج الطاقة النووية أو الأسلحة الذرية! أي أنها كانت "تنوي" تحويل العناصر الرخيصة والتي هي في متناول الجميع مثل النحاس إلى مواد إشعاعية وإلى وقود نووي والي سلاح ذري.
سميرة موسى كانت إحدى الفتيات الرائدات في الإلتحاق بالتعليم الجامعي، ليس هذا فقط بل اختارت الفتاة الريفية دراسة العلوم، وهي بهذا قد قدحت الزناد لآلة الخرافة في مجتمعنا المصري، وهو مجتمع مثله مثل كل المجتمعات الشرقية إبان الاحتلال الغربي لا يعرف عن العلوم - ولا يزال للأسف الشديد - إلا ألمنتوجات الحديثة. حتى هذه المنتوجات لا يستطيع الكثيرون منا اليوم وبعد مرور سبعة عقود أن يجدوا لها تفسيرا علميا منطقيا لطريقة عملها.
العلوم الطبيعية الحديثة ليست مجرد آلية لتصنيع المنتوجات الصناعية الحديثة. هي في الحقيقة ثقافة، وأسلوب تفكير، ورؤية حضارية. على سبيل المثال، فالعالم الفيزيائي عندما يتوصل لاكتشاف معين أو يتعرف على حقيقة محددة يغيير بهما عقولنا ويوجه بهما طريقة تفكيرنا. هل تدرك شعوبنا ذلك؟ للأسف الشديد "إلا من رحم ربي".
وسط كل هذه العوامل الإجتماعية نشأت سميرة في إحدى قري الدلتا. لكنها نجحت وبتفوق لافت للنظر في كلية العلوم. وقد تخرجت فيها في العام 1939 أو 1942 عندما كان عمرها 22 أو 26 عاما (حسب المصادر الغير رصينة التي تزخر بها الشبكة العنكبوتية). كل هذا يحسب للفتاة الريفية، وهو بحد ذاته مدعاة لها ولأهلها بالفخر.
لكن أن يكون تفوقها ملفتا ليست ميزة بحد ذاته. إذ يبدو أنها على المقاييس الأكاديمية الطلابية لم يكن هناك ما ينبئ بتفوق علمي أو ببصيرة بحثية. وسنتعرف على دلائل ذلك لاحقا. للدلالة على ذلك نذكر أن الخرافة المصرية - وبصورة كلاسيكية نمطية - لم تلتفت إلى الإعتراضات العلمية التي أبداها الأساتذة الأجانب وإدارة الجامعة أمام تعيينها كمعيدة بالكلية. لأنهم على ما يبدوا لم يروا فيها روح الباحثة حتى وإن نجحت بتفوق دراسي، وليس كما يقال لكونها امرأة. لا يمكننا أن نصدق أن الإدارة والأساتذة الغربيين يقفون أمام فتاة واعدة لمجرد أنها امرأة!
لكن هنا يبرز الفرق بين الذهنية الغربية التي تتخذ التفكير العلمي نمطا للحياة، بينما نراه نحن مجرد نزهة نقوم بها عندما تسمح لنا بها ذهنية الخرافة التي تلف حياتنا. حسب رأيهم لم تكن الفتاة إلا حالة تفوق دراسي. أي أن تنبوءاتهم لم تتوقع للفتاة الريفية – بنت المجتمع الذي وصفناه سالفا – مستقبلا بحثيا، فضلا عن تحولها لعالمة.
لقد أبرز أصحاب الخرافة وأهل الإسطورة الدور الفعال الذي قام به أستاذها الدكتور مشرفة، وهو من هو سطوة وسلطة في جامعة فؤاد الأول وفي كلية العلوم. دور الأستاذ مشرفة لم يكن فقط شاذا أو على الأقل مختلفا عن زملائه من الأساتذة الأجانب، الذين قامت على أكتافهم كلية العلوم، بل يبدوا أنه يحمل تحيزا لا يمكن تبريره على المقاييس الديمقراطية للعلوم.
هذه النقطة الأخيرة جوهرية في المناهج العلمية المعاصرة. من لا يحترمها ويعتقد فيه اعتقادا جازما ليس له مكان في المجتمع العلمي العالمي. هل يؤشر هذا التدخل الفج أن الأستاذ مشرفة فقد مكانته العلمية إبان تعيين السميرة الموسي معيدة بكلية العلوم؟ للأسف الشديد هناك دلائل تؤييد ذلك. دلائل تبرهن على أن الرجل أصبح "محليا" لأقصي درجة وأن اتباطاته بالمجتمع العلمي "الدولي" قد وهنت أو تلاشت تماما.
أجتازت سميرة موسي عقبة التعيين بالكلية لتبدأ بعدها آلة الخرافة في العمل من جديد.هذه المرة انتقلت الفتاة الريفية المنشأ في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي إلى بريطانيا – الدولة العظمي لدراسة الماجستير أو الماجستير والدكتوراه (لا نعرف على وجه الدقة ولا يهم ذلك كثيرا).
حصلت على شهادة الماجستير في موضوع التوصيل الحراري للغازات. موضوع يصنف ضمن علوم "الجوامد" أو Solid State Physics. ليس هناك وثائق يعتمد عليها توضح متي حصلت على درجتي الماجستير والدكتوراه. لكن المصادر الغير معتمدة تتفق أنها سافرت إلى الولايات المتحدة عام 1952 بعد أن انهت درجتي الماجستير والدكتوراه. لو أن هذا التاريخ صحيح فنحن إذن أمام مسار دراسي وأكاديمي تقليدي جدا.
لم نجد في الدوريات العلمية أية أبحاث تحمل اسم سميرة موسي. ولم يصل إلى علمنا أنها قد اشتركت في مؤتمر علمي واحد.بمعني أنا بالمقاييس العلمية المنهجية لاتوجد أية ورقة بحثية يمكننا فحصها وبالتالي الحكم على محتواها العلمي. عملية النشر العلمي هي الطريقة الوحيدة – وليست هناك طريقة خلافها – لتقدير أو لإحتقار من يشتغلون بالعلم. وأن كل ما يقال عن توصلها لمعادلات أو عن "نيتها" لتفتيت العناصر الرخيصة إلى مواد مشعة ليس إلا من بنات أفكار "كتاب الدراما" والجالسين على المصاطب في الريف المصري الوادع القانع بحالة التردي الحضاري التي يرزح تحتها.
إن ما يقال على زياراتها لمفاعلات نووية أمريكية مجرد أكاذيب لا تستحق الرد عليها، إذ إن أول مفاعل ذري كان في أنشأ في الاتحاد السوفييتي في العام التي لقيت فيه سميرة مصرعها في حادث السير الشهير. كما ان حادثة السير تلك التي أودت بحياة الفتاة الريفية يتم حتى اليوم إبرازها على أنها من عمل خسيس للموساد الإسرائيلي. يا قومنا: "الموساد لم يتم انشأؤه الا بعد مقتل سميرة بأربع سنوات".
الحديث عن الاستخدامات السلمية للمواد المشعة لم تتطرق إليها المصادر العلمية ألا بعد فترة طويلة من مقتل سميرة رحمها الله. وأيضا الكلام حول تفتيت العناصر الثقيلة وتحويلها إلى مواد مشعة ليس الا خرافة، ولا يمكن قبولها حتى اليوم وحتى في ضوء التطورات التكنولوجية والعلمية التي توصلنا أليها.
السؤال الكبير الآن هو ما الضرر في أن يتم تصوير الفتاة الريفية على أنها "ماري كوري الشرق" أو أنها أول "عالمة ذرة مصرية"؟ الإجابة ببساطة أنا نحن العلماء نعرف الحقيقة، ولا يمكن أن يتم خداعنا بمثل تلك الخرافات، ونحن لا نهتم بكل هذه الترهات بأية صورة من الصور. هذا من ناحية أما من الناحية الأخرى فالضرر كبير على عموم الناس وخاصة الشباب منهم، وعلى الصورة الذهنية للعقل الجمعي للشعب المصري. أن يعرف أعداؤنا أن لانزال نروج لمثل تلك الخرافات، فسيتأكد أنا من الضعف الحضاري والعقلي وحتى العسكري بحيث يستطيع أي عدو اختراقنا متي وأني وكيف شاء.
"محمد بن عبدالله" هو النبي الخاتم الذي جائنا بالقرآن الكريم. القول بأن سميرة موسي "عالمة ذرية" لا يتختلف عن القول "الكاذب"بأن"محمد بن عبدالله" ليس نبيا أو ليس خاتما وأنه لم يأتينا بالقرآن الكريم.
ليس فقط أن "الحقيقة" يتم تغييبها لصالح "الخرافة"، بل يتم من خلال الإصرار على ترويج هذه الخرافات إهدار القيم، قيم النبوغ الدارسي، قيم التفوق العلمي، قيم الرصانة البحثية، قيم المنهجية العلمية، قيم المنطق والعقلانية. هل تستطيع شعوبنا تحمل الأثمان الباهظة جراء أهدار كل هذه القيم الحضارية الرفيعة.
لكن الحقيقة السيسيولوجية تتنبأ بأن "خرافة سميرة موسي" لن يتم التخلي عنها بسهولة أو بسرعة. فشعوبنا المنهزمة حضارية لا تتحمل تداعيات التفكير العلمي. لكنا نحن العلماء مطالبون بأن ننادي في البرية: "يا قومنا أجيبوا داعي الله" فالله هو الحق والصدق وإن كرهتم!