
تحت لواء "علم السعودية" !
عبدالناصر توفيق
تحت لواء "علم السعودية" !
لاعب أولمبي مصري يرفع علم العربية السعودية أثناء سيره فى طابور عرض البعثات فى الدورة الأولمبية الحالية فى ريو دي جانيرو البرازيلية. قد يبدو الامر أتفه من مجرد التعليق. وقد يكتفي البعض بالتبريرات "السطحية" التي قدمها اللاعب, والذي بالصدفة ينتمي الي المؤسسة العسكرية المصرية. لكن البعض يعتقد أن هذه الحادثة هي عرض لمرض قد يمس "العقيدة العسكرية" فى صميمها.
هذا اللاعب لم ولن تكون له إنجازات أولمبية تتعدي مجرد "شرف المشاركة" أو التمثيل "الغير" مشرف, لأنه فى سلوكه هذا يبدو أنه لا يتمتع بالوعي, ولا بالثقافة, ولا بالوطنية. حتي ولو حدثت المعجزة – وقد انقطعت مع اتمام الرسالات السماوية - وتحطمت "علشان خاطر عيونه" قوانين الطبيعة ورأيناه فوق منصة التتويج متوجا بالذهب, سيذهب هو وذهبه الى أحط مكانة فى التاريخ. ليس لأن "علم السعودية" نحس, لا سمح الله! بل لأنه كان يجب عليه الوقوف تعظيم سلام "لعلم" جمهورية مصر العربية, الدولة التي يمثلها, والدولة اللي خيرها عليه من ساسه لراسه!
الولد الهمام قال إيه يا جماعة بقدرة قادر لقي "علم السعودية" مرمي على الأرض, وقال إيه علشان هوه يا شيخنا متدين ما استحملش انه يلاقي "لفظ الجلالة" ملق على الأرض, ولهذا شمر عن ساعديه وإلتقطه ليحفظ كرامة وشرف "إسم الجلالة", ليس هذا فقط بل لوح به بيده اليسري وترك يده اليمني تحمل وتلوح بالعلم المصري.
شوفتوا التدين! شوفتوا انه إزاي إن الولد اضطر لإلتقاط علم دولة لم يذهب الى ريو لتمثيلها ليلوح به وليحفظ دين الله فى ذات الوقت. يعني احنا ح نستني ايه من رياضي متدين يلاقي "الحداية" رامياله "علم السعودية" على أرض ريو؟! ليه مش أعلام دول تانية؟! علم العراق برضه يحمل لفظ الجلالة. علم إيران يحمل أيضا لفظ الجلالة. ويمكن فيه أعلام دول تانية تحمل "لفظ الجلالة".
هذا ما يخص "ظاهر" الحدث المأساوي. أما ما يخص جذوره, وتداعياته, ودلالاته, فإن الأمر أخطر من "التفاهة" التي تم بها التعامل مع هذا الحدث الخطير. وأيضا "الطرمخة" التي أعقبت الصدمة التي أصابتنا بعد أن ابتلانا الله برؤية هذه الصور المخجلة. كان الأجدر بأولات الأمر استدعائه وإلغاء مشاركته بإسم "مصر"!
أن يتطوع لاعب أولمبي أثناء سيره فى طابور عرض الدول المشاركة برفع علم دولة أخري – دولة غير الدولة التي يمثلها, مصيبة ما بعدها مصيبة. ليس فقط لأن اللاعب يبدو مغيبا أو "مبلبع", وليس فقط لأن اللاعب علي ما يبدو أنه غير مدرك للموقف الذي هو فيه, الحقيقة أن الحادثة تدل على خلل في إدراك العقيدة الوطنية.
السؤال البديهي هو ماهية العقيدة الوطنية؟ حب الوطن, الفخر بالإنتماء للوطن, التضحية من أجل الوطن, وإن اقتضي الأمر التضحية بالنفس, هذه هي بعض الإجابات عن هذه السؤال المحوري.
لماذا "علم" السعودية وليست "أعلام" دولة أخري؟ ولماذا لاعب أولمبي "مصري" وليس لاعب أولمبي من أية دولة إسلامية أخري؟ الإجابة ببساطة هي أن العربية السعودية أصبحت تلعب دورا محوريا فى السياسة الداخلية المصرية, ولا تلعب ذات الدور فى أية دولة أخري. ولم يحدث أن تبدلت المفاهيم – حتي العقائدية - لدي شعب من شعوب المنطقة كما تبدلت المفاهيم لدي طبقة الحكام فى مصر ولدي مؤيديهم. لقد برز مؤخرا الدور الهائل للعربية السعودية فى الإطاحة بحكم الإخوان على "حظه العثر" وتأييدا للحكم الحالي على الرغم من الشعارات الوطنية والحنجوريات الإستقلالية التي يرفعها.
بعد عقود طويلة من التبشير "الوهابي", أصبح للعربية السعودية دورا محوريا فى سياسة مصر الداخلية وفى دورها الخارجي. لدرجة أن العقيدة السنية لغالبية السنة المصريين قد تبدلت ناحية الإنتماء للمذهب الوهابي أكثر من الخليط السحري من المذهبين الحنفي والشافعي. أنا فى هذا لا أنتقد العربية السعودية ولا المذهب الوهابي. أنا في هذه المقالة أحلل وأراقب, وقد أكون أكثر إعجابا بهما أكثر من الإعتراض على الإنبطاح المصري أمامهما.
في ضوء هذا التحليل قد نجد مبررات لعموم المصريين, لكنها ليست تبريرا لهم. إذ يمكن لعوام المصريين أن يختلط عليهم الأمر فيما يخص الأراضي المقدسة, والدولة الحالية فى العربية السعودية, وبالتالي فس رؤيتهم للحكم وللحكام, وفي تصوراتهم عن السياسة والسياسيين, وفس قبولهم للدولة ولرجالها. وفي ضوء هذا التحليل قد نجد مبررات لعموم المصريين فى تبنيهم للمعتقدات التي يتنباها سكان الجزيرة العربية وبين الثراء الذي يتمتعون به. ولهذا لا نستهجن كثيرا انتشار ظواهر ومظاهر بدوية في مجتمع وادي النيل.
لكن الحقيقة التاريخية تقرر أنه لم يحدث أن تبني المصريون ثقافة شعب آخر كما يفعلون اليوم. شعب وادي النيل والذي كان الأقدم في سلم الحضارة الإنسانية, تعرض لغزوات بدوية وغير بدوية طويلة قبل هذا الغزو الأخير, على سبيل المثال الهكسوس ذوي الأصول الأسيوية, والذين دام حكمهم المباشر لمصر لمدة قرن كامل. لم يترك الهكسوس – وهم بدو رحل - أثرا كما يتوقع ألا تترك الثقافة الوهابية فى مصر المعاصرة أثرا ذا شأن!
في فترة الضعف التي بدأت مع نهاية حكم الدولة الوسطى أو بنهاية حكم الأسرة الرابعة عشر تفوق الهكسوس على المصرين فى التكنولوجيا الحربية, تماما كما يري البعض فى الثراء النفطي نعمة مرتبطة بتبني المذهب الوهابي.
غزا الهكسوس مصر لأنهم تفوقوا فى تكنولوجيات عسكرية كانت تستعملها الشعوب السامية من عربات تجرها الخيول, والأقواس المركبة, والفؤوس الخارقة, والسيوف المنحنية. تماما كما أصبحنا فى مصر نري أن دول الخليج تبني عجائبا معمارية وفى العربية السعودية وفرة زراعية, ونعيما مقيما. وكل ذلك كانت مجالات تتفوق فيها مصر تقليديا!
لكني أعتقد أن الروح المصري المتقدة لن تقبل ذلك علي المدي البعيد. ولقد تم طرد الهكسوس بحرب شاملة وكانت شرسة شنها عليهم المصريون وانتهت بطردهم نهائياً على يد الملك أحمس الأول في عصر الأسرة الحديثة. ولم تقم للهكسوس في تاريخ البشرية قائمة بعد ذلك.
قد تكون هذه مبررات لعموم المصريين! لكنا كنا نعتقد أن المؤسسة العسكرية المصرية كانت بمنأي عن التأثير بهذه المأثرات العميقة. لكن الأمر علي ما يبدو غير ذلك. يبدو أن التأثير قد طال المؤسسة العسكرية المصرية, ونتمني ألا يكون الصواب حليفنا.
قبل أن يقف أحدهم معترضا, دعونا نستدعي أن اللاعب الأولمبي إياه ينتمي للمؤسسة العسكرية المصرية. الرجل هو لاعب ضمن فرق المؤسسة العسكرية المصرية, وقد شاء حظنا العثر أن يتم إرساله ضمن البعثة الأولمبية المصرية ليمثلها على المستوي الدولي.
أن يقترف لاعب من المؤسسة العسكرية جريرة حمل "علم" دولة غير الدولة المصرية فى طابور عرض الدول المشتركة ليس له مبرر أيا كان. ولا يجب أن ننسي أن تحية العلم هي تعبير أصيل عن الوطنية, وعمل يمارسه العسكريون المصريون على الأقل يوميا. كما يتوقع منهم التضحية بالنفس دفاعا عن "العلم" المصري. اللاعب العسكري إياه ح يضحي فى سبيل أنهو علم؟ المصري؟ ولا السعودي.
البعض يفضل أن يفسر ما حدث نتيجة لإنبطاح رجالات الحكم فى مصر أمام أموال وتبرعات "الكفيل السعودي". لا تعليق! ولا داعي لإستدعاء من كان دائما يقدم المساعدات لمن؟
لكن السؤال هو ماذا سنفعل مقابل التبرعات, والمساعدات الأمريكية, على سبيل المثال؟! هل سيرفع أحدهم "علم" الولايات المتحدة الأمريكية؟!
أخوانا بيقولوا: "تحيا المملكة العربية السعودية"!
وغيرهم ح بيقولوا: "تحيا الولايات المتحدة الأمريكية"!
وقد يأتي أحدهم ليهتف: "تحيا الإمارات العربية المتحدة"!
لكنا تعلمنا فى المدارس وفى فترة الجندية الإجبارية لعموم المصريين: "تحيا جمهورية مصر العربية"!
فى كل لحظة نقول: "تحيا جمهورية مصر العربية"! وندعوا الله أن يبقي "العلم المصري" خفاقا أبد الآبدين فى ريو أو في غير ريو!
atawfik@cern.ch
http://atawfik.net