
التقويم الهجري والمواسم الإسلامية
عبدالناصر توفيق
التقويم الهجري والمواسم الإسلامية
الدكتور يوسف زيدان باحث مرموق. وكثيرا ما يثير الجدل مثله في ذلك مثل كبار العلماء. ولأن الموضوعات التي يتناولها أو يسلط الضوء عليها لها أبعاد دينية واجتماعية نجده يصطدم بمحرمات اعتادها مجتمعنا التقليدي. آخر ما تناوله كان التقويم الهجري والتعديلات التي طرأت عليه منذ الدولة الأموية وتأثير ذلك على دورة المواسم الإسلامية.
طلب الباحث الجليل من الناس الإمعان فى تأثير حذف شهر "النسيئ" من التقويم المسمي بالتقويم الهجري أو القمري على حقيقة تطابق المواسم الإسلامية مع مواقيتها المعلومة. هذا "الشهر" أو بالأحري "الأيام" كانت تضاف الى السنة القمرية حتى تتوافق مع التقويم الشمسي وبالتالي يتم تحديد المواسم الإسلامية, مثل الصوم فى شهر "رمضان", القيام في "ليلة القدر" في الثلث الأخير من شهر الصيام, ذكاة الفطر, الحج, وغيرها, بمواقيتها المعلومة.
السؤال الهام الذي تجب الإجابة عليه أولا هو هل التقويم الهجري قمري أم شمسي؟ الإجابة البديهية هي أنه لا يوجد ما يسمي بالتقويم الإسلامي. بمعني إن الإسلام أو المسلمين لم يقترحوا يوما تقويما جديدا يختلف عما كان موجودا قبل ظهور الإسلام. هم فى الحقيقية اعتمدوا على التقاويم التي كانت موجودة قبلهم. وبالتحديد اختاروا التقويم الذي كانت العرب قبل الإسلام تستعمله. للإستزادة عن التقاويم المختلفة وكيف تطورت عبر التاريخ يرجي تفعيل هذا الرابط
قبل الإسلام اتبع العرب الحساب القمري أو السنة القمرية بأشهرها الاثني عشرة. لم يكونوا بحاجة الى تقويم دقيق, فقد كان يكفيهم التأريخ ببعض الأحداث الكبرى ومثل تأريخ بناء الكعبة (عام 1855 ق.م), وانهيار سد مأرب (سنة 130 ق.م تقريباً)، ووفاة كعب بن لؤي الجد السابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم (سنة 59 ق.م), ورئاسة عمرو بن لحي (سنة 260), وعام الفيل (سنة 571م), وحرب الفجار (الأشهر الحرم سنة 585م)، وتاريخ تجديد الكعبة (سنة 605م), وغيرها.
استمر هذ الأمر مع ظهور الإسلام. حيث لم تحدد السنين بتواريخ رقمية, إنما بأسماء تدل على أشهر الحوادث التي وقعت فيها. وقد أخذت السنوات العشر التالية للهجرة وحتى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، الأسماء التالية :
- السنة الأولى : سنة الإذن (الإذن بالهجرة)
- السنة الثانية : سنة الأمر (الأمر بالقتال)
- السنة الثالثة : سنة التمحيص
- السنة الرابعة : الترفئة
- السنة الخامسة : الزلزال
- السنة السادسة : الاستئناس
- السنة السابعة : الاستغلاب
- السنة الثامنة : الاستواء
- السنة التاسعة : البراءة
- السنة العاشر : الوداع
في السنة الثالثة من خلافة "عمر بن الخطاب" ورد كتاب من أبي موسى الأشعري عامله على البصرة يقول فيه: "إنه يأتينا من أمير المؤمنين كتب فلا ندرى على أي نعمل وقد قرأنا كتاباً محله شعبان فلا ندري أهو الذي نحن فيه أم الماضي!". عندها جمع عمر أكابر الصحابة للتداول في هذا الأمر، وكان ذلك في يوم الأربعاء 20 جمادى الآخرة السنة السابعة عشر للهجرةـ وانتهوا إلى ضرورة اختيار مبدأ التاريخ الإسلامي، وتباينت الآراء : فمنهم من رأى الأخذ بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من رأى ببعثته، ومنهم من رأى العمل بتقويم الفرس أو الروم، لكن الرأي استقر على الأخذ برأي "علي بن أبي طالب" الذي أشار إلى جعل بداية التقويم هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد اتخذ أول المحرم من السنة التي هاجر الرسول فيها الرسول صلى الله عليه وسلم كبداية للتاريخ الإسلامي. وتجدر الإشارة الى أن الهجرة لم تبدأ ولم تنته في ذلك اليوم, إنما بدأت في أواخر شهر صفر, ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشارف المدينة يوم الاثنين الثامن من ربيع الأول ثم دخل المدينة يوم الجمعة 12 من شهر ربيع الأول .
وقد اختلفت أسماء الأشهر القمرية إلى أن وصلت إلى صورتها المعروفة عليها منذ عهد "كلاب" الجد الخامس للرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 412م كما يذكر البيروني. كما قدم عدد من المؤرخين أمثال البيروني والمسعودي والمقريزي أسماءا للأشهر في الجاهلية منها: المؤتمر، ناجر، صوان، حنتم، زباء، الأصم، عادل، نافق، واغل، هراغ، برك.
أيضا استخدمت العرب في الجاهلية الأشهر الشمسية في بعض المناطق وبخاصة في جنوب الجزيرة (اليمن). كانت السنة الشمسية مطابقة للأبراج الفلكية الاثني عشر التي تمر بها الشمس بحيث يبدأ كل شهر مع بداية برج معين.
وعليه فالتقويم الهجري يعتمد التقويم القمري فيما يخص الشهور فقط. وللدلالة علي ذلك نذكر الحديث الشريف حول بدأ الصوم وأنه "إِذَا رَأَيْتُمُوهُ (أَيْ الهِلَال) فَصُومُوا, وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا, فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ أو فَأَكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ ثَلاثِينَ". ومنه يتضح أي الشهور الهجرية هي شهور قمرية تتراوح بين 29 و30 يوما. والشهر القمري هي الفترة بين ميلادي أو أكتمالي هلالين متتالين. وعليه فتحديد ميلاد أو إكتمال الهلال في هذه العصور قبل ما يزيد عن ألف وأربعمائة سنة لم يكن دقيقا بالمرة, حيث لم تتوفر لهم أجهزة رصد دقيقة كما لنا اليوم.
ويختلف تحديد الهلال من حضارة لأخري. ففي مصر القديمة يولد الهلال فى اليوم الذي لا يمكن فيه رؤية القمر قبل شروق الشمس. أما فى الثقافات الأوروبية القديمة كان يبدأ الشهر القمري فى مساء اليوم الذي يمكن فيه رؤية الهلال الوليد متزامنا مع الشمس أو يومين قبل هذا المساء. هذا المبدأ يتم اعتماده حتى الآن فى تحديد الشهور الهجرية. ومن هذا نري أنه تقويم بعيد كل البعد عن التحديد الدقيق. لكن التقويم الشمسي ليس بأكثر دقة منه!
وتجدر الإشارة الى أن التقويم العبري قمري أيضا لكنه يعتمد على الحساب وليس الرؤية بالعين المجردة. كجملة إعتراضية نتسائل هل يمكننا ان نعزو التفوق العلمي لليهود الى جذور ثقافية منها اعتماد منهج عقلي فى تحديد بداية الشهور القمرية, كمثال؟ لا نستطيع الحزم تماما, لكنه الامر ليس مستبعدا تماما.
سنري كيف أن التقويم المعتمد لتحديد المواسم الإسلامية وهي محكمة بطبيعتها (أي ذات مواقيت محددة) كما جاء فى القرآن الكريم أدي ويؤدي الى عشوائية تبعدنا عن المنطق العقلي, الذي يجعلنا نطمإن الى إدراكها في توقيتاتها, ويمكن أن تأخدنا الى حيز الخزعبلات الكهنوتية فى أقل تقدير (إن لم يكن تقودنا الى التدليس والطرمخة والإستعباط والإستهبال يمارسه رجال الدين علي عوام المسلمين).
من وجهة النظر العلمية, مدار القمر حول الأرض يكتمل (بمعني يتم دورة كاملة حول الأرض) فى 27 يوما و7 ساعات, و 43 دقيقة و11.5 ثانية. هذه الدورة تسمي بالشهر الفلكي. هذا التقويم الفلكي المعتمد على دورة القمر منتشر فى الثقافات الهندية والصينية حيث يقسمون الشهر القمري الى 27 أو 28 موسما أو برجا, كل برج يحدد "يوما" وكل منها مرتبط بنجم محدد.
أما الشهر القمري المجمع ويعرف ب Synodic month فهو متوسط دورة القمر بالنسبة الى خط (وهمي) يربط الأرض بالشمس. وهو يحدد أطوار القمر لأن ظهور القمر بالنسبة لنا سيعتمد على موضعه كما يبدو لنا فى الأرض بالنسبة إلى الشمس.
وعليه فعند حساب دوران القمر دورة كاملة حول الأرض, يجب ان نأخذ فى الإعتبار أن الأرض تدور هي الأخري حول نفسها. بمعني أن الدوران الفلكي للقمر والذي كما أسلفنا يستغرق 27 يوما وكسورا لا يكفي لكي يعود القمر الى نفس المكان على الأرض الذى بدأ منه (لأن الأرض تدور هي الأخري حول نفسها). على القمر أن يستمر لمسافة أخري تعوض ما دارته الأرض حول محورها لكي يصل على المسافة الزاوية Angular distance من الشمس. هذا هو الشهر القمري المجمع Synodic Month.
أيضا من المعروف أو مدار الأرض حول الشمس بيضاوي وليس دائريا, فالمعدل الزاوي لحركة الأرض حول الشمس يختلف خلال فصول السنة. ويتسارع المعدل الزاوي عندما تكون الأرض أقرب للشمس Periapsis ويتباطئ عندما تكون الأرض أبعد عن الشمس Apoapsis. هذه الظاهرة يتعرض لها القمر أيضا فى دورانه حول الأرض. لكل هذه الأسباب فإن الزمن الحقيقي بين طورين متتاليين للقمر يترواوح بين 29.18 و 29.93 يوما أو بين 29 و 30 يوما علي وجه التقريب. أي أن الفرق بين الشهر القمري الفلكي والشهر القمري الحقيقي قد يصل الى 2.2 يوما.
نستنتج من كل تلك المعارف الفلكية أن التقويم القمري هو تقويم "شهري" بإمتياز. أي إنه تقويم تستطيع به حساب الشهور حسابا دقيقا. "إِذَا رَأَيْتُمُوهُ (أَيْ الهِلَال) فَصُومُوا, وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا, فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ أو فَأَكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ ثَلاثِينَ" حديث شريف يبين أن التقويم القمري هو الأنسب لتحديد بداية شهر الصوم وغيره من الأشهر الإسلامية.
ماذا عن "السنة"؟ لا نستطيع باستعمال حقيقة دوران القمر حول الأرض تحديد السنة. كما لا يصلح التقويم القمري لتحديد الأيام. "وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِى لَهَآ أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ"، سورة يس 37 حتي 40.
لكن التقويم الشمسي هو الذي يقدر "السنة" بدقة كبيرة؟ وكما أسلفنا يفشل فى تحديد "الشهر" و"اليوم". من قسمة عدد أيام السنة "الشمسية" علي عدد الشهور كما جاء الآية 36 من سورة التوبة: "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ".
نجد أن الشهر الشمسي يترواح بين 30 و31 يوما, في حين يتراوح شهر فبراير بين 28 و 29 يوما. وعليه فلو اعتمدنا التقويم القمري كما نفعل منذ الدولة الأموية سنجد أن هناك 11 يوما يلزم إضافتها للسنة القمرية حتي تتلاقي مع السنة الشمسية.
وحتى لا يتم إلباس هذا التقويم ثوبا قدسيا نرجو دراسة الرابط السابق حيث سيتضح أنه كان معروفا للأمم الوثنية التي سبقت ظهور الإسلام بقرون عديدة, ولا غرو فى ذلك بل لعلها ميزة فريدة تميز بها الدين الإسلامي ألا يتباعد مع السيل الرئيس لتيار الحضارة البشرية بل ينساب معه.
للإجابة عن نوعية "التقويم الإسلامي", نقول إنه يخلط بين التقويمين القمري والشمسي بصورة ملفتة. إذ أن تحديد أوقات الحر، والبرد، والأمطار, والزرع، ونحو ذلك كان ولا يزال يتم بواسطة "حساب" البروج, ومنازل القمر والتي بدورها ترتبط بحركة الشمس.
قبل الاستطراد دعونا نستلهم الآية الشهيرة في سورة التوبة "إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ". التفاسير المعتبرة تشير إلي معني النَّسِيءُ كلمة أنها "الربا" بمعني الزيادة فى المال حال اقتراضه من صاحب المال للذي بحاجة إليه. لكن كلمة النَّسِيءُ قد تم توظيفها للدلالة علي ما يسمي بشهر "النَّسِيءُ". النسي معناها في اللغة "العقيب" أو "الزائد".
ويبقي الأسئلة المحوري: ما هو النسيئ؟ وما هو المقصود ب "النسيئ" فى الآية الكريمة؟ وكيف كان يتم توفيق التقويمين القمري والشمس؟ وكيف يمكن إعادة تعريف التقويم الإسلامي بحيث يضمن لنا أن يكون شهر "صفر" الشهر الذي "يُصَفًر" فيه الفرق بين طول الليل وطول النهار, علي سبيل المثال, بحاجة لإجابات شافية.
قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "إني لم أبعث لعانًا، ولكني بعثتُ عاديًا ورحمة، اللهم اهدِ قومي فإنهم لايعلمون" . اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ولا يريدون!