رئيس التحرير: عادل صبري 01:12 صباحاً | السبت 05 يوليو 2025 م | 09 محرم 1447 هـ | الـقـاهـره °

التحديات الخارجية ومعضلة الدولة القومية والعلاقات الدولية

التحديات الخارجية ومعضلة الدولة القومية والعلاقات الدولية
03 يناير 2016

التحديات الخارجية ومعضلة الدولة القومية والعلاقات الدولية

سيف عبدالفتاح

التحديات الخارجية ومعضلة الدولة القومية والعلاقات الدولية

حين النظر إلى التحديات الخارجية في عالم المسلمين فإنه من المهم أن تتخذ الرؤية الإسلامية والمشروع الإسلامي هذه الأمور الثلاثة في اعتبارها، حتى يمكنها مواجهة تلك التحيات الخارجية بوعي وفاعلية.


أولها: الدولة القومية وعناصر القسمة الجديدة.

ثانيها: النظام الدولي والمتغير والثابت فيه وضرورة ملاحظة المتغيرات والتبدلات والتطورات والتحولات والأشكال.

ثالثها: حركة الاتصال وشبكة العلاقات الدولية (التبدل بل الانقلاب العالمي في مفاهيم الاتصال والمعلوماتية والتطورات التقنية).


يقدم برتران بادي أحد علماء الاجتماع السياسي الفرنسيين والتي تمثل اجتهاداتهم العمق الكافي أطروحة مهمة نظن أنها امتدت في غالب مؤلفاته التي اطلعنا عليها، وأطروحته كانت حول الدولة، والنماذج اللاغربية لها، وامتدت اهتماماته بل وغلب عليها ما أُسمى بالدولة الإسلامية. وحقيقة الأمر أن هذه الأطروحة التي تتعرف على الفروق قبل إحداث نوع من المشابهات الفضة أو القياسات الفاسدة لها من الأمور المنهجية التي يجب الوقوف عليها وتفحص مضامينها والتعرف على تأثيراتها البحثية ومألاتها الجوهرية والمفصلية والحقيقية.

هذه الرؤية تضمنت مجموعة من العناصر:

الدولة (علم اجتماع الدولة): كما يؤكد بادي مستلهمًا بعض ما يؤديه ماركس أن علينا أن نجرى تحليلًا فعليًا لشتى أنماط الدولة التي تكونت في كل واحد من المجتمعات تبعًا لتاريخه الخاص.. إنه علم اجتماع الدولة الآخذ بعين الاعتبار تعددية المسارات التاريخية، الذي يشكك في إمكانية تعميم الدولة – الأمة الغربية، ورؤيتها باعتبارها التوجه الضروري والوحيد لسيرورة تطورها.. ذلك أن ظهور عدد هائل من الدول التقنية نتيجة لتفتت النظام الاستعماري، خارج أوربا، أدى إلى اضطراب التقاليد المكتسبة من موضوع العلاقات الدولية فضلًا عن أنه هز بعمق أيضًا التحليلات وطرق الإدراك والتفكير التي كانت وضعتها العلوم الاجتماعية انطلاقا من أفكار وملاحظات كرست للقارة القديمة.. الدولة الوليدة لا زالت هشة وغير ثابتة، وتبدو في سياستها الوطنية غير متكاملة المعالم، مواجهة من هذا النوع تجعل من الضروري العودة للتاريخ كتأكيد للتوجهات الحالية لعلم السياسة كإمكانية حقيقية لتجاوزها.. وفي العالم الإسلامي أكثر مما في غيره يوجد تنوع للأنظمة والممارسات السياسية تتطلب الدراسة والتفسير بدقة.. ينتقد ضمن ما ينقد شمولية التصورات.

الدولتان: هذا كتاب آخر لـ "بادي" يحيلنا إلى ضرورة التعرف على علم الفروق بين نمطين من الدولة (الدولتان: الدولة والمجمتع في الغرب وفي دار الإسلام)، هذه الفروق تشير إلى الأزمة التي تمثلها فرضية الحداثة الشاملة على التفكير السوسيولوجي الذي حاول تعميم تجربة النمو الغربية على كل المناطق من العالم.. فالوقائع قد دعمت مضمون هذه الأزمة "من العالم الإسلامي" أكثر من أي مكان آخر.. وهو أمر يؤسس للنشأة لعلم اجتماع تاريخي قد يصادفه أشد الصعوبات لتاسيس قواعد منهجه، وهذا يعني، ضمن ما يعني، أنه لا وجود لجماعة اجتماعية ثقافية كانت أم قومية - منغلقة كليًا على الآخرين، فالتفاعلات المستمرة تنتظم وفق بنية التبادلات والسلطة التي تحكم النسق الدولي. فالعلاقات الدولية، القائمة على التبعية أو على الترابط تسهم منذ القرن الماضي في فرصة رهانات مشتركة وقواعد متشابهة.. وربما البحث عن تقوية القصور الاجتماعية - التاريخية يرتبط بالسوسيولوجيا التاريخية التأويلية هو ما يهدف إلى جعل الخصوصيات قابلة للفهم.

يؤكد بادي على جرأة هذه السوسيولوجيا التاريخية وضرورتها بل وقدرتها على التساؤل في سياقات التكوين، منظورًا إليها كسياقات خاصة، مبينة إلى أية مخاطر كانت هذه السياقات مشيدة ضمن مركزية التاريخ الغربي، فالحداثة السياسية الغربية - وبالتبعية منتجاتها - تستمد هويتها وخصوصيتها من صلتها بسياق تاريخي معين وبرهان متقاسم، وبخاصة من اتصالها بثقافة عامة مشتركة.


ماذا يترتب على ذلك كما يؤكد بادي "لا يمكن أن تدرك بشكل سليم، الهوية الاجتماعية - التاريخية للحداثة السياسية (المنبثقة) من الغرب من أجل الخروج من نظام القرون الوسطى المأزوم إلا بمقارنتها بهوية نظام سياسي آخر، مبني ضمن سياق مختلف وفي مواجهة رهانات مختلفة، ومولد لرؤية وممارسة للسياسي من طبيعة مختلفة. لذا نرى من المناسب تأويل السياقات الاجتماعية التي صنعت تاريخ الغرب بدءًا من السياقات نفسها، كما من بناء السياسي الذي كان يشكل بالتنافس داخل الإمبراطوريات الإسلامية في مرحلة القرون الوسطى.."، السياسي وفق هذا التحليل يجب أن يُفهم كمجال للنشاطات، أي المجال الذي يفسح في أن تمارس السلطة في حيز معين، وفي أن تتحدد أنماط تشريعاته وتنبني أدواته ومؤسساته وقواعد وظائفه أو بالجملة السياسة على نحو متميز.


إن البناءات السياسية متعددة تاريخيًا، وهي ما تزال متباينة، ولا يمكن للسوسيولوجيا السياسية الغربية أن تقنعنا عكس ذلك، حتى ولو قلصت الحقيقة السياسية إلى تمثل تصوري مركزي أو وحيد. إذا كان الأمر كذلك فإن بادي يكمل أطرد حقه محللًا ومشرحًا أسماه بـ "الدولة المستوردة".


يتحدث بادي عن واقع تعيشه بلدان الجنوب (ومنها بلدان العالم العربي والاسلامي) التي تخلصت من الاستعمار المباشر المكشوف، ولكنها لم تتخلص من التبعية السياسية والثقافية. فانتهاء عهد الاستعمار لم يعن تلقائيًا أنه قدم لمجتمعات العالم الثالث والعالم الإسلامي على وجه الخصوص تنظيمات يتفق مع تقاليدها، بل الملاحظ أن ظاهرة التبعية السياسية والثقافية لم تنته بل زادت. ورغم أن قادة الجنوب يتحدثون كثيرًا عن القطيعة مع المستعمرين السابقين فإنهم يستوردون قوانينهم ونموذجهم للتنمية وأشكالهم الديمقراطية النيابية (رغم أنهم يشكلونها بطريقتهم الخاصة). ويقومون هم ومثقفوهم بالتفكر والعمل والبناء تبعًا لأنماط النظم والمفاهيم الغربية، ولكن هذا التغريب المفروض يفشل، والتطعيم مشوه وربما كان مستحيلًا يتم على نحو عشوائي. ورغم الآمال للتقريب الفاشل لم يسبب إلا عددًا من الأمراض الاجتماعية وكان ومازال عاملًا للفوضى في العلاقات الدولية.


إن هذا العالم المتنافر الذي لا يصل إلى توحيد قواعد اللعبة أو يجد لها مكانًا في الاختلافات والفروق يشكل بلا شك أكبر تهديد يثقل كاهل البشرية.


هذا التقييم النابع من (الفروق والخصوصيات) (والتغريب المفروض) (والتطعيم المشوه) (والظواهر العشوائية) لابد أنها ستجد تأثيرًا على العلاقات الدولية تستند إلى مقولة بادي "التاريخ لم ينته" فبعد موجة استقلال البلدان.. وقواعد الدول وبتماثلها في كل مكان تقريبًا على سطح الكرة الأرضية. وعاونت هذه الموجة في تكوين "عالم ثالث" شاسع، تدعو تسميته المضللة إلى الاعتقاد بأنه يمر بمرحلة تدريبية في عالم خاضع لمعايير موحده، وتؤدي إلى القصور بأنه لا بد لمسيرة هذا العالم الثالث أن تقوده في النهاية نحو الديمقراطية أي ذات المسار – التي هي – لعدم وجود نماذج أخرى وجهة التاريخ النهائية.


هذه الرؤى المنتجة للمدرسة التطورية، تقوم باستنزاف أوهامها المتبقية، بينما تنقشع أحلام التقارب (بمعنى حصول البلدان على نتائج ووصولها إلى أهداف متقاربة وتتبدد أسطورة التقدم المطرد والمستمر، لقد أدت مجريات الأحداث دورها وأنجزت مهمتها، لم تكن مسيرة الدول الإفريقية والأسيوية خلال الثلث الأخير (من القرن الفائت) متطابقة مع النماذج المعلنة.. كما أن التصورات بشأن ما يجب أن تكون عليه الدولة لم تتقارب.


وتبدو الدولة المستوردة ضمن واحد من أهم أطوارها المشكلة، إذ تبرز ظواهر، وتبدو عمليات، و"ترسم العولمة تكوين نظام دولي يتجه نحو توحيد مناهجه وقيمة وأهدافه، مع طموحه في ذات الوقت إلى دمج الإنسانية بأكملها داخله. وبطبيعة الحال تبدو هذه العملية المستحدثة في التاريخ بأنها تدعم فرضية التقارب" بل وترسخها.

والواقع أنها تكشف عن العديد من أنواع التنافر وعدم الاتساق حيث تحدد نطاق هذا النظام، فعندما تحث على استيراد نماذج غربية إلى مجتمعات الجنوب. تكشف بذلك عن عدم ملائمة هذه النماذج، وعندما تحرض المجتمعات الطرفية على التكيف، توقظ أيضًا آمال التجدد مع المخاطرة في الوقت ذاته بخداعها، وحين تعجل بتوحيد العالم، فإنها تحبذ ظهور التفردات والخصوصيات وتزيد تأكيدها، وحين تمنح النظام الدولي مركزًا للسلطة مرتبًا أكثر من أي وقت مضى، فإنها تتجه نحو زيادة حدة منازعاته وشدة صراعاته. وحين تسعى لعولمة نحو وضع نهاية للتاريخ، فإنها تمنحه فجأة معاني متعددة ومتناقضة.


هكذا تستصحب العولمة معها الإعلاء من شأن التفرد. ويبدو هذا الارتباط غريبًا لاسيما وأن العولمة مستأثرة تحب الانفراد، كما أنها مزودة بموارد وفيرة: إذ يرتكز توحيد النظام الدولي على إمكانات تقنية راسخة تساعد على سهولة الحركة، وعلى الاتصال، والاختراق المتبادل، والواقع أنه يستهدف تقليص الخصوصيات وتحبيذ الانتساب إلى نظام مشترك قانوني وسياسي واقتصادي، بل وأخلاقي. وعلى هذا لا يمتلك التفرد المجابه لهذا النظام وسائل القوة، والمؤكد أن التفرد يفرض نفسه عن طريق تعبئة الموارد الشاردة من المركز، غير أنه يتغذى بخاصة على الاعتراضات وعلى أشكال المقاومة التي تثيرها عمليات التجنيس الثقافي (جعل الثقافات متجانسة).


وتقوم العولمة حينذاك بتجديد بناء فكرة التبعية ذاتها. وحيث أنها تتصور نظامًا دوليًا موحدًا، وتتغذى على عملية متشعبة لنشر النماذج، فإنها تنطوي أولًا على وجود بنية للسلطة تقوم بتنشيط العلاقات الدولية. ولا تعكس هذه البنية المتعددة في هويتها أية حتمية وحيدة ولا يمكن اعتبارها اقتصادية فقط. ولا يمكن اختزالها أيضًا إلى مجموعة بسيطة من الفاعلين، ولا تصورها على أي حال بأنها "مؤامرة من متسلطين". إن خاصيتها الرئيسية هي خلق شبكات ومجموعات مصالح ومنافع تضم فاعلين من "الشمال" وفاعلين من "الجنوب" يحملون مصالح وأهدفًا متنوعة للغاية. وحين تقوم العولمة بإيجاد السلطة، فإنها تخلق أيضًا منازعاتها الخاصة وصراعاتها الذاتية، وتتزود بأساليب انغلاقها. وحيث أن العولمة تحصل على رؤيتها من رغبتها في توحيد النماذج، فإنها تضفي على التوترات التي تحدتها صبغة ثقافية أساسًا.


إن التبعية الثقافية المتناقضة في إنجازاتها، الخيالية في طموحاتها، الساذجة في مسلماتها، التي كثيرًا ما تتسبب في صراعات عنيفة، وما يتم استنكارها وتشبيهها أحيانًا بالشيطان.. تزداد ترسخًا وانتشارًا، بل وتتوطد سيطرتها على المسرح الدولي أكثر فأكثر. هذا يحيلنا بدوره كيف للمشروع الإسلامي لا بد أن يتخذ المواقف الواعية والسياسات الداعمة للتعامل مع تحدي العولمة.

 

الحلقة الأولى: المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال 
الحلقة الثانية: إشكال الاختزال 
الحلقة الثالثة: النقد الذاتي فضيلة وفريضة وضرورة 
الحلقة الرابعة: الشريعة والمشروع 
الحلقة الخامسة: الأمة وعواقب الدولة القومية 
الحلقة السادسة: الأمة وعواقب الدولة القومية (2) 
الحلقة السابعة: الجماعة الوطنية اجتهاد في حق الوطن والمواطنة 
الحلقة الثامنة: أمتنا.. من المسألة الشرقية إلى الشرق الأوسط الكبير  
الحلقة التاسعة: مشروعان يتدافعان في المنطقة.. الأمة الوسط والشرق الأوسط الجديد
الحلقة العاشرة: مشروع التغيير الإسلامي والذاكرة الحضارية.. الخبرة والعبرة
الحلقة الحادية عشرة: خريطة التحديات الحضارية في العالم الإسلامي: التحديات الداخلية (1)
الحلقة الثانية عشرة: التحديات الحضارية الخارجية وعالم المسلمين (2)

 

  • تعليقات فيسبوك
  • اعلان

    أحدث المقالات

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    محمد إبراهيم

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    السيئ الرئيس!

    سليمان الحكيم

    السيئ الرئيس!

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    علاء عريبى

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    تامر أبو عرب

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    ما جريمة عادل صبري؟

    يحيى حسين عبد الهادي

    ما جريمة عادل صبري؟

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    أميمة أحمد

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    محمد إبراهيم

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    عادل صبري حفيد النديم

    سليمان الحكيم

    عادل صبري حفيد النديم

    عادل صبري وترخيص الحي!

    علاء عريبى

    عادل صبري وترخيص الحي!

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية

    السيد موسى

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية