
خريطة التحديات الحضارية في العالم الإسلامي: التحديات الداخلية (1)
سيف عبدالفتاح
خريطة التحديات الحضارية في العالم الإسلامي: التحديات الداخلية (1)
برز العالم الإسلامي، ومنذ ظهور هذا المفهوم على ساحة البحث والدراسة كقوة مميزة على الساحة الدولية، وذلك بسبب الموضع الاستراتيجي الذي تحتله الوحدات السياسية والدول المكونة له، وبتأثير الأحداث المتشابكة والكبرى التي جرت وتُجرى في مختلف البلدان الواقعة في نطاقه.
ورغم تواتر استخدام هذا المفهوم "العالم الإسلامي" إلا أنه لا يزال واحدًا من أهم المفاهيم المختلف فيها وعليها لدى الكثيرين لأسباب ومقاصد متعددة ومتنوعة، وهو ما يجعل من إلقاء الضوء على مفهوم العالم الإسلامي المعاصر والمعايير المختلفة والمتبعة لتحديده وتوضيح أبعاده ومعامله، وبيان الدول والوحدات التي تشكل أجزاءه، والذاكرة التاريخية المرتبطة بهذا المفهوم (دار الإسلام)، وبروز الظاهرة القومية وإفرازاتها في شكل "الدول القومية" وما أحدثه ذلك من تطورات وتغييرات على المفاهيم المختلفة التي تسهم بدورها في تحديد مفهوم العالم الإسلامي وما تركه ذلك من آثار على العلاقات بين الدول الإسلامية من جانب، وبين الدول الإسلامية والعالم الغربي على تنوعه من جانب آخر من الأمور المهمة في هذا المقام.
العالم الإسلامي "كمفهوم حضاري" يزكيه وصف هذه التحديات بوصف "الحضارية" والتي تشير إلى جملة التحديات الرئيسية والاستراتيجية وما تمثله من تحديات مفصلية أو تكوينية أو هيكلية، موضوع التحديات التي تجابه العالم الإسلامي، ليس من الموضوعات الحديثة أو الطارئة، بل غالبًا ما تم إثارته بشكل متكرر ومتواتر إما في حالات التغيرات العالمية والدولية أو في إطار وضوح ضعف العالم الإسلامي والفجوة التي تتسع بين حجم إمكاناته ودائرة فاعلياته، وأنماط أدواره. وغالبًا ما يُثار هذا الموضوع ما اجتمعت المتغيرات الدولية التي تبرز هامشية دور العالم الإسلامي.
ومن ثم يصير التفكير فيما يُسمى بالتحديات والتي تجابه عالم المسلمين أو العالم الإسلامي ضمن منظومة عالمية ممتدة ومتشابكة، ومتغيرة الأشكال، وبما أن هذه التحديات الحضارية قد اختلفت كمًا ونوعًا وكثافة، فيبدو أن مدخل "توينبي" حول فكرته الأساسية "التحدي و"الاستجابة" قد تشكل مدخلًا مهمًا ومناسبًا في دراسة عناصر التحدي وأشكال الاستجابة، وبما تحدده من عناصر محفزة للحركة والسلوك للاختيار والقدرة على المواجهة، فضلًا عن "الإرادة" للخروج و"العدة" الملاءمة له خروجًا من أزمات استحكمت تدور في معظمها حول الضعف والانقسام والتخلف والتي ارتبطت على نحو أو آخر بالعالم الإسلامي.
وحقيقة الأمر أننا أمام أهم إشكالية حقيقية بعد المرحلة الاستعمارية، والتي خرجت من رحمها "الدول القومية" المستقلة المشوهة، والتي تفرض بدورها عنصر معادلة جديدة، ومن هنا كانت هناك جملة من الإشكاليات والتحديات والأزمات التي تطول الدول القومية جميعًا، وأخرى تتعلق بالدول الإسلامية خاصة، وكثير منها تشكل تشكلًا متميزًا في إطار التكوينات القومية الإسلامية، وربما تعود في جانب منها إلى الخبرة الإسلامية فيما قبل هذه التشكيلات التي اصطلح على تسميتها بالدول القومية. وغاية الأمر أن هذه التحديات فيما بعد الاستقلال (قديمها وحديثها) صارت تتشكل وتملك تأثيراتها ضمن منظومة يصعب فيها من ناحية الفصل في التأثير والتفاعل بين عناصر الداخل والخارج فيها من ناحية، فضلًا عن صعوبة تحديد ما هو الداخلي أو الخارجي وفق عناصر تقويم وتقييم لأوضاع التحديات وأشكال الاستجابات.
إننا أمام عناصر قسمة جديدة لابد من ملاحظتها وأخذها في الاعتبار إذ ما أردنا رؤية خريطة التحديات على حقيقتها، ذلك أن كثيرًا من الدراسات في هذا المقام قد تنجح بدرجة أو بأخرى في رسم خريطة التحديات أو وصفها وصفًا دقيقًا، إلا أنها قد لا تفلح في رصد هذه التحديات ضمن الوسط والبيئة المحيطة بها، فقد نتصور ذلك ضمن افتراض أن هناك "أمة إسلامية" باعتبارها كيان يملك الإرادة السياسية المتحدة والقرار السياسي الواحد ودراسات أخرى قد تنظر إلى هذه الدول باعتبارها دولًا قومية لا تأثير لوصف الإسلامية على وصف إشكالاتها أو تحدياتها، ومن ثم فهي تحيد ذلك الوصف وما يمكن أن يتركه من آثار تتمثل في بعض منها ما تحمله من ذاكرة تاريخية ممتدة لابد أن تجد تأثيراتها الفعلية على أرض الواقع وفى إنتاج الظواهر السياسية المرتبطة به في بعض تكويناتها. فضلاً عما تحمله هذه التحديات من مخزون تاريخي لا يمكن إهماله بأي حال في الوصف والرصد، كما لا يمكن تغافله ضمن تصورات المواجهة واتخاذ مواقف التحدي أو بدائل أخرى، وذلك ضمن صياغة مشروعاتها الحضارية في تشكيل عناصر الاستجابة الفاعلة لهذه التحديات الوصف ضمن الوسط لا يزال يملك تأثيرًا على أرض الواقع في إطار الامتداد التاريخي من جهة والامتداد المستقبلي من جهة أخرى.
وضمن هذه السياقات في الفهم والرؤية يمكن تحديد التحديات في شكل أقرب ما يكون للمفاصل الكبرى والأزمات المتواترة والضغوط الحضارية المكونة لها والمولَّدة لتشكلاتها وتجلياتها، ومن هنا يبدو لنا أن هذه التحديات السياسية المنوه عنها لابد أن ترى ضمن امتداداتها (الخارجية) وضمن تفاعلاتها مع المجالات الأخرى السياسية والاجتماعية والثقافية والاعلامية والاقتصادية وجملة الحضارية.
هذه النظرة الشاملة تزكي المنظور الحضاري ضمن مسارين مهمين:
الأول: يتعلق بإطار مدخل السنن، الباحث في أصول العلل والأسباب والعلاقات الارتباطية والشرطية ضمن مكونات الفعل الحضاري، السنن الحاكمة لصعود الحضارات وضعفها.
الثاني: يتعلق بالاستفادة من مدخل المستقبليات، والذي يمكن من النظر إلى مستقبل هذه التحديات، ومؤشرات حول طرائق مواجهتها، وذلك في سياق الارتباط بين هذا وذاك في إطار السنن الفاعلة.
وضمن تلك المقدمات السابق التنويه إليها يمكن تصنيف التحديات السياسية الداخلية إلى قسمين يعالج كل قسم في باب:
القسم الأول: المتعلق ببناء الأمة والتحديات المتعلقة بذلك، وهو يتضمن إثارة جملة التحديات المختلفة في كل ما يتعلق بقضايا الهوية والاختلاف والتعددية، وما يحيط بذلك وما يتولد عنه من قضايا مثل العلاقة بين الإسلام والعروبة، والإسلام والتعددية ضمن مفهومها الواسع (التعدديات العرقية والإثنية والدينية والاجتماعية ... إلخ) ويمكن التطرق في هذا الصدد إلى الحركات الإسلامية والدينية.
أما القسم الثاني: فهو المتعلق ببناء الدولة أي ما يرتبط بالكيان السياسي والعلاقة السياسية وأنماطها ومتطلباتها، وتشكيل النظام السياسي، وهذا يشتمل بدوره على مناقشة جملة من الإشكاليات والتحديات من مثل إشكالية العلمانية وتأسيس النظم السياسية، إشكالية العلاقة بين الشورى والديمقراطية. وكذلك إشكالية العلاقة بين أطراف العلاقة السياسية وما يرتبط بذلك من تأسيس هذه العلاقة السياسية (أي ترجمتها إلى أشكال مؤسسية مستقرة وفاعلة) وهو ما يجعلنا نتطرق إلى المؤسسات السياسية والأحزاب السياسية، ومؤسسات المشاركة السياسية والمجتمعات الأهلية والعناصر المتعلقة بمؤسسات الثقافة السياسية فضلًا عن سياسات التنمية. وهذا يثير بدوره جملة الأزمات التي تواجه النظم السياسية في بلدان العالم الإسلامي (أزمة الهوية، أزمة الشرعية، أزمة المشاركة، أزمة التغلغل، أزمة التوزيع ... إلخ)، وإمكانات مواجهتها وتقديم أنماط استجابة فاعلة لها.
في تفاصيل المشروع الإسلامي الكبير لا بد أن تلقى كل هذه الأمور تفصيلًا في التصور ووضوحًا في الرؤية واجتهادًا يستوعب معطيات الواقع ولكنه لا يخضع لإملاءاته، يعتبر الواقع ولكن لا يحكمه، يدرك الواقع ويعي مكوناته ليتعرف على مداخل تفسيره ومسالك تغييره.
الحلقة الأولى: المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال
الحلقة الثانية: إشكال الاختزال
الحلقة الثالثة: النقد الذاتي فضيلة وفريضة وضرورة
الحلقة الرابعة: الشريعة والمشروع
الحلقة الخامسة: الأمة وعواقب الدولة القومية
الحلقة السادسة: الأمة وعواقب الدولة القومية (2)
الحلقة السابعة: الجماعة الوطنية اجتهاد في حق الوطن والمواطنة
الحلقة الثامنة: أمتنا.. من المسألة الشرقية إلى الشرق الأوسط الكبير
الحلقة التاسعة: مشروعان يتدافعان في المنطقة.. الأمة الوسط والشرق الأوسط الجديد
الحلقة العاشرة: مشروع التغيير الإسلامي والذاكرة الحضارية.. الخبرة والعبرة