
قرار الاستيطان والسياسة الخارجية المصرية
عبدالفتاح ماضي
قرار الاستيطان والسياسة الخارجية المصرية
سحبت مصر مشروع القانون التي كانت تنوي طرحه للتصويت بمجلس الأمن نيابة عن المجموعة العربية لإدانة الاستيطان في الأراضي المحتلة بعد أن تعرضت لضغوط الحكومة الإسرائيلية وإدارة دونالد ترامب القادمة. لكن القرار الأممي صدر في اليوم التالي بعد أن طرحته ماليزيا والسنيغال وفنزويلا ونيوزلاند وامتنعت أمريكا عن استخدام الفيتو لمنع إدانة دولة الاحتلال لأول مرة منذ سنوات.
ثورة يناير كانت فرصة ذهبية لمصر وللحكومات العربية لتعديل ميزان القوة في المنطقة ووقف استهدافها واختراقها لكن خصومها في الداخل والخارج فشلوا في فهم حكمة "أكلت يوم أكل الثور الأبيض".
قرأ مندوب مصر بالأمم المتحدة بيانا يبرر فيه موقف بلاده، مؤكدا على أهمية “إتاحة الفرصة للإدارة الأميركية الجديدة للتعامل بشكل متكافئ مع كافة أبعاد القضية الفلسطينية وتحقيق تسوية شاملة ونهائية لهذه القضية”! كما أشار البيان إلى أن التشاور الذي أجرته مصر “خلال الشهر الماضي” أوضح أن “التفاوض المباشر" هو أفضل طرق إنهاء الصراع والوصول لتسوية شاملة وعادلة”! مضيفا أن الكثير من القرارات صدرت خلال العقود الماضية لم تنجح في “استعادة الحقوق الشرعية للفلسطينين” أو “حتى” تمكينهم من "بناء دولتهم المستقلة" حسب قوله! وأكد أيضا أن “التسرع” في التصويت دون أخذ هذه الأمور بالحسبان ودون مناقشة “ما إذا كان القرار سيدفع القضية الفلسطينية الى الامام” هو الذي دفع مصر لسحب المشروع!
هل فكر من اتخذ القرار في سمعة مصر ودورها وهو يتخلى بهذا الشكل عن مشروع القرار نيابة عن المجموعة العربية؟ وهل كانت مصر ترى أنه من المناسب يوم الخميس 22 كانون أول/ديسمبر طرح المشروع ثم أدركت الجمعة 23 من ذات الشهر أن قرارات الأمم المتحدة لن تستعيد الحقوق وأن هناك إدارة أمريكية قادمة وينبغي منحها الوقت؟
ثم أليس القول بأن التفاوض المباشر هو الطريق الوحيد لحل الصراع هو ترديد لسياسة أمريكية إسرائيلية أدت في الحقيقة إلى إطالة الصراع وإتاحة الفرصة للإسرائليين لتغيير الواقع على الأرض خلال مرحلة أوسلو التى ما دخلها اسحاق شامير رئيس وزراء دولة الاحتلال إلا بعد قوله إنه سيدخل "عملية تسوية" قد تمتد 100 عام.
نعم لن يغير القرار (كما معظم القرارات السابقة) الكثير من الأمور على الأرض، ليس لأنه جرى دون مناقشة كما أشار المندوب، وإنما لأن مصر والأطراف التي تدافع عن الحقوق العربية متفرقة وضعيفة. إن الأمم المتحدة تمثل منذ ولادتها أداة لتحقيق مصالح الأقوياء على حساب الضعفاء، والقوة لا يوقفها إلا التكتل والعمل المشترك.
إن استعادة الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني الذي تحدث عنها المندوب تُسأل عنها الحكومة المصرية وبقية الحكومات العربية التي تهدر منذ عقود كل الفرص الممكنة لتعديل هذا الاختلال برفضها الاستقواء بشعوبها وبدولة القانون والمؤسسات، واستمرارها في الاستقواء بالحكومات الغربية من بوابة دولة الاحتلال، وعجزها عن التحالف مع الشعوب الحرة في كل مكان.
ولا تحتاج واشنطن إلى المزيد من الوقت، فالإدارات الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية تحتضن دولة الاحتلال عسكريا وماليا ودبلوماسيا، كما أن إدارة أوباما المغادرة تتحمل مسؤولية أمرين تاريخيين على الأقل، هما خذلان الثورات العربية من أجل الحرية واستمرار دعمها للثورات المضادة بالمنطقة، وعدم رغبتها في، أو عجزها عن، الضغط على دولة الاحتلال ودفعها نحو التنازل. وسيسجل تاريخ المنطقة أن إدارة أوباما عقدت في سبتمبر الماضي أكبر حزمة مساعدات عسكرية غير مسبوقة للإسرائيليين خلال السنوات العشر المقبلة تقدر بـ38 مليار دولار، وهي الصفقة الأكبر في التاريخ الأمريكي كله.
للأسف تُرسم السياسة الخارجية المصرية الحالة (كما أيام مبارك أيضا) بعيدا تماما عن أبجديات الأمن القومي المصري والعربي، وبتجاهل تام لكوادر وزارة الخارجية المصرية.
إن من مسلمات السياسة المعاصرة أن السياسة الخارجية لأي دولة هي انعكاس إلى حد كبير لأوضاعها الداخلية ورؤى قادتها وقدرات مؤسساتها في الداخل. ولا يمكن صنع سياسة خارجية مؤثرة إلا على يد نظام سياسي قويٌ بشعبه ومجتمعه، وقويٌ بمؤسساته وكوادره الفنية، وقويٌ قبل كل هذا برؤيته لنفسه ولدور بلاده في الإقليم وفي العالم.
لهذا لا يمكن ربط الدبلوماسية المصرية بالمكاسب الضيقة لمجموعات المصالح الحاكمة بالداخل. لقد تحدثت بعض الصحف أن مصر أرادت المناورة بتقديم المشروع ثم سحبه بهدف استخدام الحدث لتعزيز الدعم الأمريكي للنظام لتحقيق عدة أهداف أهمها ضرب قوى الإسلام السياسي في المنطقة، وتعزيز العلاقات مع دولة الاحتلال، بجانب استمرار الدعم العسكري وتعزيز التعاون الاستخباراتي بين البلدين بشأن سيناء وغزة وليبيا.
ومن جهة أخرى، صحيح أن مصر قدمت الكثير من الدعم للقضية الفلسطينية وخاضت عدة حروب للدفاع عن أمنها القومي الذي هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي، وذلك حتى نصر أكتوبر 1973. لكن ومنذ صلح السادات عام 1978 أضرت السياسات المصرية بجوهر المشكلة وبالأمن القومي المصري والعربي.
فقد فتح غياب مصر الباب أمام دولة الاحتلال لهدم ثوابت الأمن القومي العربي وتغيير موازين القوة بالمنطقة. وبعد حرب الخليج الثانية وانقسام العرب، تم تحييد المنظومة القانونية الدولية بشأن الصراع برغم أنها لم تكن منصفة بالأساس. ثم سلمت اتفاقيات أوسلو القضية برمتها للولايات المتحدة واللوبي الصهيوني، لتتحول مصر إلى مجرد وسيط للقاءات فلسطينية إسرائيلية كان هدفها خداع الفلسطينيين بينما تتم مضاعفة أعداد المستوطنين وتهويد ما تبقى من فلسطين.
وفى ظل ضعف نظام مبارك وبقية الحكومات العربية، طلب الأمريكيون والإسرائيليون من الفلسطينيين التنازل عن كل شيء تقريبا (تقرير المصير، والمقاومة، والقدس، وحقوق اللاجئين، والعودة، والتعويضات) مقابل لا شيء تقريبا (حكم ذاتي محدود أو وعد بكيان يسمى دولة منزوعة السيادة والسلاح)، ولتتحول القضية من قضية احتلال وحقوق مسلوبة إلى “أرض متنازع عليها”.
ثم تحولت مصر بعد أحداث سبتمبر2001 إلى مجرد قناة اتصال أمنية، وأحكمت اتفاقية فيلاديلفيا المصرية ــ الإسرائيلية (2005) حصار غزة بحظرها دخول السلع والأشخاص، ولا تزال مصر جزءا من هذا الحصار حتى اليوم.
وفي أعقاب 30 يونيو ظهر تحالف قوي بين النظام الحاكم وبين دولة الاحتلال، وسمعنا وصلات من المدح المتبادل بين أقطاب النظامين، وصارت المقاومة للأسف الشديد إرهابا في الخطاب الرسمي والإعلامي المصري.
هذه الأمور لم (ولن) يتحدث عنها المندوب المصري بالأمم المتحدة. وقد يعتبرها البعض لا أهمية لها، لكنها في الحقيقية جزء لا يتجزأ من الكوارث التي نحياها اليوم ومن التخريب المنظم للدبلوماسية المصرية والعربية.
علينا أن نتذكر جيدا أن الإسرائيليين حققوا ثلاثة مكاسب على الأقل من علاقتهم بمصر خلال العقود الثلاثة قبل ثورة يناير ومنذ 30 يونيو 2013..
الأول مكسب عسكري/استراتيجي، وهو تحييد مصر وتأمين الجبهة الجنوبية وتخفيف العبء المالي وتوجيه الاهتمام لجبهات أخرى، وكان من أسوأ تداعيات هذا في مصر إدخال الجيش في التجارة والاقتصاد وتعزيز دوره في السياسة ومن ثم تبدل الأولويات والمهام.
أما الثاني فهو مكسب ثقافي/نفسي، وهو قيام النظام المصري قبل ثورة يناير وبعد 30 يونيو، ومعه أنظمة عربية أخرى، بزرع ثقافة التسوية المختلة وتشويه ومحاصرة المقاومة فنشأت أجيال لا تعرف أبجديات الصراع، وخلت المدارس والجامعات من مقررات تتناول الصراع، واختفت مراكز البحوث التي تعنى بالصراع وبالأمن القومي العربي، وظهر مثقفون من بني جلدتنا يروجون لمغالطات بشأن المشكلة الفلسطينية كالقول بأنها تمثل خطرا على الأمن القومي المصري، وأنها مشكلة الفلسطينيين فقط، وأن الفلسطينيين باعوا أراضيهم وغير ذلك من أساليب التسميم السياسي التي انتهجتها الحركة الصهيونية منذ نشأتها وحتى اليوم وصار لها للأسف تلاميذ في مصر والدول العربية.
في أعقاب 30 يونيو ظهر تحالف قوي بين النظام الحاكم وبين دولة الاحتلال، وسمعنا وصلات من المدح المتبادل بين أقطاب النظامين، وصارت المقاومة للأسف الشديد إرهابا في الخطاب الرسمي والإعلامي المصري.
أما المكسب الثالث فهو مادي/تجاري، وهو تحقيق مكاسب مادية من التطبيع في بعض المجالات ما أوجد طبقة من رجال الأعمال الفاسدين بمصر والدول العربية، وتحولت القضية لدى البعض إلى صفقات تجارية أو إلى مجرد تحسين الأوضاع الاقتصادية للشعب الفلسطيني القابع تحت الاحتلال منذ عقود.
كانت ثورة يناير فرصة ذهبية لمصر وللحكومات العربية لتعديل ميزان القوة في المنطقة ووقف استهدافها واختراقها لكن خصومها في الداخل والخارج فشلوا في فهم حكمة "أكلت يوم أكل الثور الأبيض".