
الدولة البوليسية وحتمية العمل من أجل الحرية
عبدالفتاح ماضي
الدولة البوليسية وحتمية العمل من أجل الحرية
حجم الكوارث التي تعيشه مصر لا مثيل له في تاريخها المعاصر. فبعد إقصاء الإسلاميين امتدت اليد الباطشة إلى كافة القوى المحسوبة على ثورة يناير من غير الإسلاميين، ثم يتم الآن استكمال السيطرة على مؤسسات الدولة من قضاء ومؤسسات دينية وغيرها.
المشروع الذي وُضع للثورة المضادة هو مشروع إجهاض الثورة، وتقسيم المجتمع وتخريب مؤسساته، وصولا إلى -لا قدر الله- إدخال البلاد إلى حِراب أهلي وتقسيم الجيش بل وربما تقسيم البلاد كلها.
والنظام السياسي الذي أُقيم لتحقيق تلك الأهداف ليس نظامًا تسلطيًا يترك مساحة للتنفيس كما كان نظام مبارك. كما أنه ليس حكمًا عسكريًا تقليديًا كالذي كان قائمًا في دول لاتينية وآسيوية حيث تستولي المؤسسة العسكرية على السلطة للحفاظ على مصالحها المؤسسية من ميزانيات ونظم تدريب وتسليح، وللحفاظ على الدولة من اختلاف السياسيين في بعض الأحيان.
هذا ليس قائما اليوم في مصر لسببين، فالمصالح المؤسسية للجيش مُصانة منذ عقود طويلة، كما أن ممارسات النظام الحالي تهدد وحدة الجيش واستقرار البلاد، وهي تتسبب كل يوم في تقسيم المجتمع ونهب ثرواته وبيع أراضيه.
بعد إقصاء الإسلاميين امتدت اليد الباطشة إلى كافة القوى المحسوبة على ثورة يناير من غير الإسلاميين، ثم يتم الآن استكمال السيطرة على مؤسسات الدولة.
فما خطورة النظام الذي أقامته الثورة المضادة؟ وما السبيل إلى تغييره؟
خطورة الدولة البوليسية
النظام الحالي أقرب - من الناحيتين العلمية والعملية كما كتبت مرارا - إلى حالة “الدولة البوليسية”، التي تتسم بحكم الأجهزة الأمنية، وهي في حالتنا أجهزة مخابراتية وجهاز أمن الدولة.
يقوم هذا الحكم على السيطرة على الشعب والمجتمع والدولة، عبر تحويل الشعب إلى نمطين: فإمّا خاضعين بالكامل لإرادة وإدارة الأجهزة الأمنية، أو خصوم يجب إقصائهم واعتقالهم ونفيهم بل وقتلهم عند الضرورة.
وتتم السيطرة أيضا عبر سيطرة الأجهزة الأمنية على المؤسسات المسلحة (الجيش والشرطة) والسياسية (البرلمان والوزارة والأحزاب) والتربوية والايديولوجية (الإعلام والجامعات والمدارس والمؤسسات الدينية) والمجتمعية (النقابات والمجتمع الخيري والأهلي والمدني بكافة هيئاته).
ولا يستمر هذا الحكم إلا بالترويج - عبر الأذرع الإعلامية والمثقفين - لمجموعة من المغالطات التي تخلق حالة من الخوف واليأس لدى الناس من أي بديل للدولة البوليسية. وفي حالتنا استعارت الأجهزة الحاكمة من النظم الشمولية سمة محاولة صياغة عقليات الناس بروايات مضللة.
العدو الأول للدولة البوليسية هو الجيش ذاته، ولهذا كانت عمليات التصفية والتطهير والإحالة للتقاعد لكل من يُشتبه في ولائه، وكانت أيضا سياسة تعزيز الإرهاب والالتفاف على الحلول الحقيقية له بهدف الزج بالجيش في صراعات مسلحة وتبرير استمرار حالة الاستنفار الأمني والطوارئ، وبالتالي استمرار شرعية الحكم القائم على مواجهة خطر الإرهاب.
مثلت الدول البوليسية التي ظهرت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا وفي القرن العشرين في أوروبا أيضا وفي العالم الثالث مراحل استثنائية في تاريخ مجتمعاتها، ولم تمتد أعمارها طويلا.
كان مصير هذه الدول في معظم الحالات مصيرا مؤلما، فالحكم الذي يعيش على العنف ينتهي غالبا به، أي بالانقلاب العسكري أو العصيان المدني أو الثورات السلمية وغير السلمية. لكن إنقاذ البلاد يتطلب وجود قوى سياسية قادرة على إدارة البلاد خلال وفي أعقاب مراحل الانتقال.
الأوضاع في مصر الآن خطر حقيقي على الشعب والمجتمع وعلى مؤسسات الدولة الرئيسية كالقضاء والجيش، كما أنها خطر حقيقي على الدول العربية كلها. ولهذا يجب على القوى السياسية ومؤسسات الدولة والقوى الحية في المجتمع التداعي لإنقاذ البلاد من التداعيات السلبية المحتملة لأي تغيير قد يتم بطرق عنيفة، فالدولة البوليسية قد يتلوها حكم بوليسي جديد، أو حكم عسكري، أو حرب أهلية، أو غزو خارجي، ما لم تكن هناك بدائل وما لم تتقدم الصفوف الفئات الواعية من داخل كل طبقة ومؤسسة.
قوة الشعب والعمل النوعي
لن يوقف قوة الدولة البوليسية في مصر إلا قوة مضادة لها. ولا سبيل هنا عن الحديث عن قوة مسلحة لأن التجارب السابقة تؤكد أنه ليس بالإمكان هزيمة هذه الأنظمة عسكريا ليس فقط بسبب تفوقها المسلح لكن لأن هذه الأنظمة مدعومة عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا من القوى الكبرى ومن دولة الأبارتيد الصهيوني.
لهذا فقوة الجماهير والعمل السياسي النوعي الذي يستهدف تغيير ميزان القوة هو المدخل الأكثر قدرة على المواجهة. وتغيير ميزان القوة هذا لا يتم بدون جهد وعمل على الأرض، عِماده الأساسي هو الشعب، وقيادته تتمثل في نخب وطلائع واعية تعبر فعلا عن أهداف واضحة، ولا تستسلم لليأس والتشاؤم، أو تنتظر الفراغ لتتصدر المشهد وتتولي السلطة، فالسياسة المعاصرة ليست بهذه السهولة.
أتصور أن الأفكار التالية قد تساعد في هذا الشأن:
أولا: تجاوز الخلافات والاستقطابات الأيديولوجية التي تغذيها الدولة البوليسية، والكف عن وزن الأخطاء السابقة من قبل كل فريق تجاه الآخر.
ثانيا: الانطلاق من هدف مشترك هو مواجهة ممارسات الدولة البوليسية وبناء دولة ديمقراطية تقوم على العدل والحرية والقانون والمواطنة والشفافية.
ثالثا: إدراك أن التركيز على هذا الهدف الاستراتيجي هو المدخل الأساسي لتحقيق الأهداف المشروعة الأخرى كالعدالة الاجتماعية، والقصاص لضحايا الأعوام السابقة، وصنع سياسات خارجية مؤثرة، واصلاح التعليم والصحة، ومكافحة الفساد، وإعادة بناء مؤسسات الدولة من جيش وشرطة وقضاء وغيرها.
رابعا: الكف عن تصور أنه يمكن مواجهة هذه الدولة من خلال العمل في جزر منعزلة، أو بمعارضة بعدة رؤوس، أو تصور أن بإمكان فصيل واحد إنقاذ مصر. المطلوب هو العمل ضمن تكتل أو اتحاد أو مظلة وطنية واسعة وجامعة تضمن تكامل الجهود وإيجاد مرجعية واحدة وعقل مدبر للعمل السياسي، وذلك حتى يمكن وضع بديل محدد لأمرين:
- مؤسسات إدارة المرحلة الانتقالية لإدارة الدولة سياسيا لمدة عامين على الأقل بعد انتهاء الحكم البوليسي. ويفضل هنا تولي فريق من التكنوقراط والسياسيين - المدعوم من القوى السياسية - على أن يحظر على أفراده تولي المناصب السياسية لمدة خمس سنوات بعد انتهاء المرحلة الانتقالية. سيمثل هؤلاء في واقع الأمر الآباء المؤسسين للنظام المنشود.
لهذه المرحلة مهام محددة هي تأسيس الدولة الديمقراطية المنشودة بمبادئها، ومؤسساتها، وآلياتها، وضوابطها، وضماناتها، بجانب معالجة القضايا الملحة كالملفين الاقتصادي والأمني. ويتم خلال هذه المرحلة أيضا فتح المجال لتقوية وتعزيز الأحزاب السياسية والمجتمع المدني.
- المرحلة الثانية تبدأ بعد انتهاء المرحلة السابقة، وفيها تبدأ المؤسسات السياسية الدائمة بالعمل حيث يُفتح الباب أمام الأحزاب للتنافس السياسي الحر على المناصب السياسية.
خامسا: وجود قيادة وطنية مُفوضة من قبل هذه المظلة الوطنية، تقود العمل السياسي، وتمثل أداة التواصل مع الداخل والخارج. تستمد هذه القيادة شرعيتها من عدالة قضايانا الوطنية ومن مشروعها السياسي الشامل الذي يجتهد في وضع كافة الوسائل التي تضمن التفاف الشعب حول القيادة، واطمئنان مؤسسات الدولة لها.
سادسا: للجيش دور مهم خلال مرحلة الانتقال، إذ سيعود إلى دوره الأساسي في حماية الدولة من المخاطر الخارجية، وسيتولى أيضا مهمة الأمن الداخلي بشكل مؤقت حتى يُعاد تأهيل جهاز شرطة مدني على أسس مهنية جديدة تماما.
وهذا غير ممكن إلا بظهور قادة من داخل الجيش يدركون خطوة ما نحن فيه وخطورة تسييس الجيش، ويؤمنون بمهنية واحترافية الجيش وحياده السياسي. أعتقد أننا سنجد هؤلاء إذا وُجدت قوى مدنية واعية ومسؤولة ومعها مشروع محدد ينطلق من الواقع ويضع أسس سياسة محددة تعالج احتياجات الناس. ولابد أن يُطور المدنيون علاقات شراكة قوية مع هؤلاء العسكريين.
سابعا: القضايا الكبرى التي ورثتها مصر من مبارك وعمّقتها السياسات الحالية يجب وضعها على أجندة العمل السياسي بمجرد بدء المرحلة الانتقالية الجديدة. ويمكن أن تُشكّل لها فرق عمل من خبراء وسياسيين تضع لها المعالجات المناسبة حسب أطر زمنية محددة.
وأقصد هنا قضايا مثل الأعمال التجارية والاقتصادية للجنرالات، الإرهاب في سيناء وملف الشرطة والأمن بشكل عام، الفساد المتحكم في مفاصل الدولة، ملف القضاء والأجهزة الرقابية، ملف المياه والسد وإثيوبيا.
كل هذه القضايا قضايا شائكة ومعقدة لكن لا مستحيل في السياسة، وقد شهدت دول أخرى قضايا مماثلة أو أكثر تعقيدا وتم حلها. المهم أن نتفق على أسس معالجتها وأهمها أننا “نريد معالجة هذه القضايا مع الحفاظ على الدولة ومؤسساتها وعلى الأمن والاستقرار”، وأن “الأولوية لبناء مؤسسات المستقبل على أسس مختلفة تماما حتى نضمن عدم تكرار تلك المشكلات”، وأننا “لا نريد معاقبة الجميع وإنما رؤوس الفساد والإجرام فقط”.
ثامنا: تعدد وسائل العمل السياسي السلمي من تظاهرات، واعتصامات، واضرابات، وتواصل مع المحافل الدولية، ورفع قضايا في المحاكم المحلية والدولية، بجانب استغلال المناسبات الانتخابية للتقدم بأجندات سياسية حقيقة تتضمن أهدافا تستهدف بالفعل محاصرة الدولة البوليسية. والمعيار الأساسي هنا هو أن تعمل هذه الوسائل بشكل مدروس وفي تناغم.
تاسعا وأخيرا: سيظل سؤال كيف يتم ما سبق سؤالا مهما. إن امتلاك الإرادة، ووضوح الأفكار السابقة، وتطوير خطاب سياسي مدروس وواع (منفتح على كل فئات المجتمع الرافضة للأوضاع الحالية، وغير مهدد لمؤسسات الدولة القائمة) يضمن حصول هذا العمل على دعم تدريجي من فئات واسعة من الشعب ومن مؤسسات الدولة، كما أنه سيضيف فاعلا مصريا على الساحة الدولية يمتلك البديل الذي يستند إلى قدرات وقوى على الأرض.
إن عمليات التغيير التي تستهدف بناء دولة القانون والحرية عادة تشهد أهدافا مرحلية وضمانات متبادلة ومواءمات وتوافقات كبرى تنفذ على مدى زمني ممتد.
يجب تجاوز الخلافات والاستقطابات الأيديولوجية التي تغذيها الدولة البوليسية، والكف عن وزن الأخطاء السابقة من قبل كل فريق تجاه الآخر.
***
انتهي المقال وأظن أنني كتبت عن معظم هذه الأفكار في السنوات السابقة، لكن ظل هناك دوما عائقان أساسيان:
- فهناك من يصر على تكرار أساليبه القديمة متصورا أنه يمكن أن يحصل على نتائج مختلفة، ومن هؤلاء من يصرون أيضا على الاستماع إلى مراكز البحوث الغربية حيث النغمة السائدة تروج منذ فترة لمغالطات مثل “أنه من غير الممكن إحداث تغيير حقيقي في مصر” و”أن الاستقطاب الايديولوجي لا حل له” و”أن ثقافة المنطقة كلها ضد التغيير”.
-وهناك أيضا من سيطر عليه التشاؤم واليأس معتقدا أن حالة مصر حالة فريدة، متناسيا أن العالم شهد حالات أسوأ من حالتنا وأمكن للعقول الوطنية فيها معالجة مشكلاتها.
سيظل الطريق طويلا فالحرية والاستقلال والعدل ليست أهدافا سهلة المنال، ويبدو أنه من الصعوبة أن تكون النخب التي كانت سببا في المشكلة جزءا من الحل.
وأختتم بمَثَل ورد في مقال لصديق يتحدث عن الشباب:
“هناك من يصنع ما يجري..
وهناك من يُشاهد ما يجري..
وهناك من لا يدري ماذا يجري..
من أي شريحةٍ تريدون أن تكونوا؟
بيدكم.. أنتم.. وأنتم وحدكم.. هذا القرار..”.
والله أعلم.