الديكتاتور في منزله وإرثه يدمر المصريين
عبدالفتاح ماضي
الديكتاتور في منزله وإرثه يدمر المصريين
صار الديكتاتور ورأس النظام الفاسد الذي أسقطته ثورة 25 يناير 2011 حرا طليقا في بيته بعد أن أُجهضت الثورة واحتل رموز الفساد والقمع مواقع السلطة وبعد أن تم قتل الآلاف واعتقال ونفي عشرات الالاف من مناصري الثورة.
نتحمل جميعا مسؤولية الفشل في محاسبة الدكتاتور وفي إجهاض الثورة، وإذا كانت أجهزة الدولة العميقة والثورة المضادة قد طمست أدلة قتل المتظاهرين أثناء ثورة يناير فسيظل الإرث الأسود الذي تركه مبارك بعد ثلاثين سنة في الحكم محفورا في ذاكرة كل مصري حر وفي كتب تاريخ مصر والمنطقة.
نتحمل جميعا مسؤولية الفشل في محاسبة الدكتاتور وفي إجهاض الثورة.
مبارك (عبر النظام الذي أنشأه، وعبر من ساعده من أجهزة ومؤسسات، وعبر الدائرة الضيقة من المنتفعين وضيقي الأفق من حوله) هو المسؤول الأول عن الكثير من الجرائم وعن العقبات والتحديات التي نواجهها حتى اليوم، وهو المسؤول عن الاستمرار في السياسات التي تبناها أنور السادات ضمن منظومة الانفتاح المنفلت التي تبناها.
مبارك هو المسؤول عن إقامة منظومة استبدادية متكاملة تقوم على قمع المعارضين، وتزوير الانتخابات، وتفريغ الدستور والقوانين من مضامينها، واختراق الأحزاب، وتسييس مؤسسات الدولة الرسمية (غير السياسية) كالقضاء والأمن والإعلام، واستخدامها ضمن استراتيجيته للبقاء في السلطة، والزج ببعضها في خصومات مع الشعب.
مبارك هو المسؤول عن تقنين الفساد، وتطبيع التسيب، وسرقة ثروات مصر، وتصدير الغاز مدعومًا للصهاينة، والفشل في التنمية والتعمير والتصنيع وفي القضاء على العشوائيات، والفشل في محاربة تجارة المخدرات والحشيش والتهريب، وهو المسؤول عن إقامة نوع من الوظائف “الطائفية” وزرع التنافس الضار على الامتيازات بين مؤسسات وفئات الشعب المختلفة. بجانب فتح الباب لبعض جنرالات الجيش للتجارة والتدخل في الاقتصاد وباسم المؤسسة العسكرية ذاتها.
مبارك هو المسؤول عن السياسات الفاشلة في الصحة التي تسببت في موت ومرض الملايين من المصريين جرّاء تفشى الأمراض المستعصية، وتردي مستوى الخدمات الصحية، بجانب الفشل حتى في توفير أبسط الخدمات كجمع القمامة وإصلاح الطرق وتنظيم المرور.
مبارك هو المسؤول عن إفساد المنظومة التعليمية في مصر بكل مستوياتها وبطرق متعددة بدءا من الميزانيات الهزيلة للتعليم والبحث العلمي مقابل الميزانيات المتضخمة للأمن والفئات المنتفعة، ومرورا بترك مشكلات التعليم لتتفاقم دون حلول حقيقية، والقضاء على استقلال الجامعات والمراكز البحثية، ونزيف هجرة العقول والكفاءات، وانتهاءً بالقضاء على قيمة العلم والبحث والمعرفة في المجتمع والدولة.
مبارك هو المسؤول عن تخريب السياسة الخارجية والتفريط في أمننا القومي وفى كرامة المصريين الكادحين بالخارج، وتجاهل علاقتنا مع أفريقيا والعالمين العربي والإسلامي، والمشاركة في حصار غزة، والقيام بدور العرّاب لسياسات الهيمنة الأمريكية والصهيونية في المنطقة.
مبارك مسؤول أيضا عن ما أسميته عام 2013 «أم الجرائم» وهي: تجريف وتسطيح عقول الكثير من المصريين، وقيام منظومته الفاسدة بما يشبه عمليات تسميم سياسي لقطاعات كبيرة من الناس، وذلك عندما أدت سياساته (عبر إعلامه المنفلت ونظامه التعليمي الفاشل ونخبته المهترئة) إلى تطبيع الفساد والإفساد والتسيب واختراق القانون، وإلى نزع الكثير من القيم والتقاليد والمبادئ من عقول الناس وزرع قناعات هدّامة ما زالت تتحكم في عقول البعض من أهالينا الطيبين، المتعلمين وغير المتعلمين على حد سواء، وتحتاج إلى جهد كبير ووقت ممتد لمعالجة تداعياته السلبية.
مبارك هو المسئول الأول عن تجريف عقول الكثير ممن يسمون “النخب” في الأحزاب ومؤسسات الدولة وفى الجامعات، حتى صار لدينا أجيال لا تعرف إلا ما تعودت عليه منذ عقود من ضعفٍ للهمة، وغيابٍ لإرادة التغيير، وعجزٍ عن مجرد التفكير في إمكانية التغيير وفى مقاومة من يقاوم التغيير، برغم وجود فرص تاريخية لهذا منذ ثورة يناير.
«أم الجرائم» هذه أكبر أثرًا وأشد تدميرًا من كل الأمور التي ذكرتها سابقًا، لأنها تمس الإنسان المصري وتتحكم في عقول الجموع الغفيرة التي من المفترض أن تُسهم في النهوض والبناء، وهي بالتالي تمثل عقبة حقيقية أمام أي إصلاح أو نهضة حقيقية.
مبارك هو المسئول الأول عن تجريف عقول الكثير ممن يسمون “النخب” في الأحزاب ومؤسسات الدولة وفى الجامعات.
تقرر سنن الكون أن التاريخ قد حَكَمَ على الديكتاتور قبل أن يحكم عليه حفنة من قضاة الأرض، وغدا سيحكم عليه قاضى السماء بما يستحق. وتقول لنا سنن الكون أيضا أن التاريخ سيذكر محاكمة الديكتاتور في سطور معدودة، أما ما سيخلده التاريخ فأمران على الأقل:
الأول الإرث الأسود للدكتاتور الممتد في كافة قطاعات المجتمع والدولة.
والثاني جهد كل مَن ساهم وجاهد - بحق وإخلاص وتجرد - في إقامة العدل وتحقيق القصاص، ومعالجة ذلك الإرث الأسود وإسقاط القناعات الهدامة التي زرعها، والسعي لبناء الإنسان الجديد القادر على الفهم والاستيعاب والعمل.