
حلب.. والمتساقطون على طريق الإنسانية
مهند حامد شادي
حلب.. والمتساقطون على طريق الإنسانية
يبدو أن قدرنا هو العيش في ظل لحظة حالكة من تاريخ أمتنا وبلادنا، لحظة انكسار آمال وتحطم أحلام وتدمير طموحات، وأسوء ما تحمله هذه اللحظة هو إمكانات الفساد الانساني الذي يمكن أن نصل إليه، عمق التردي في الدناءة الذي يمكن أن نبلغه، ذلك القاع اللانهائي من البشاعة الذي نتحرك إليه بكل همة وجد.
كما خُلقت الدنيا كساحة اختبار، تبدو سوريا كاختبار مستمر يعبره الناس، فإما أن ينجحوا لإنسانيتهم، أو يتساقطون على درب الإنسانية، وحلب اليوم سؤال جديد في الاختبار، تساقط فيه الكثيرون.
وكما خُلقت الدنيا كساحة اختبار، تبدو سوريا كاختبار مستمر يعبره الناس، فإما أن ينجحوا لإنسانيتهم، أو يتساقطون على درب الإنسانية، وحلب اليوم سؤال جديد في الاختبار، تساقط فيه الكثيرون، وهم في ذلك على أصناف عدة.
محامي الشيطان
لا يخجل ذلك الصنف في المنافحة عن المجرمين، فهو يدافع عن نظام بشار، يحيي تدخلات إيران، يصفق لضربات روسيا. حججه جاهزة في كل ذلك، إنها المقاومة والممانعة ومحاربة الارهاب الاسلامي الذي يستهدف "سوريا الأسد". هو في ذلك كله صريح وواضح، هو "شبيح" بكل ما تعنيه الكلمة من معان، سقطت نفسه مرة واحدة فلم يتبق لنا سوى السوء الذي أمرته. وهو صنف لا يمكن مجادلته، كيف يمكن أن تقنع "إنسانا" أن يكون إنسانا؟ هو إما ذاك وإما وحشا ضاريا لا يكترث بحياة البشر، وهي هنا حياة 300 ألف نفس زهقت بسبب الشيطان الذي يدافع عنه.
عابد الدولة
يخرج هذا الصنف من عباءة البؤس، ذلك البؤس الذي يتماهى مع مؤيدي النظام في مصر، حيث تطفو "الدولة" كمسألة غامضة المعنى غير محددة المعالم مشوهة التعيين في أرض الواقع، ولكنها رغم كل ذلك تبدو ككعبة مقدسة يطوف حولها عبادها من مؤيدي نظام لا يعلم عن الدولة سوى قدرتها على البطش ولا يفهم من بنيتها سوى مركزية هيكلها حول فرد. لهذا يدافع هذا الصنف عن جرائم النظام، فهو "يحارب الارهاب" لكي "يحافظ على الدولة السورية"، والدولة السورية هنا كيان افتراضي غير متعين في أرض الواقع، فلا أحد يعلم كنه هذه الدولة تحديدا، ولكن بقاء بشار هو المؤشر الوحيد على بقاء الدولة، فبشار هو سوريا، كما أن السيسي هو مصر، وسقوط أي منما هو سقوط "للدولة". كان من الطبيعي إذ ذاك أن يكون "الشعب" و"الأرض" و"السيادة" أمور هامشية في نظر هذا الصنف، فالشعب يمكن أن يقتل، والأرض يمكن أن تباع وتترك والسيادة يمكن انتهاكها بل والطلب من "الدول الداعمة" انتهاكها، فنحن سنضحي بالشعب والأرض والسيادة من أجل بقاء الدولة/النظام/بشار.
اللطيف أن هذا الصنف لا يدافع من منطلق أيديولوجي متماسك، بل هو فقط نوع من التبرع بالدعم كرشح عن دعمه للنظام في مصر، هو صنف هزيل من البشر لا يتبرع بإنسانيته من أجل مصلحة حقيقية يمكن أن يجنيها كما الصنف الأول، بل هو تدنى في بؤسه وفي دناءته أن أصبح يدافع عن جرائم بشعة فقط كمجال لتصريف مزيد دعمه اللامتناهي لنظام يعيش فيه بالفعل.
المحايد البارد
هو ليس محايدا على الحقيقة، بل هو يتخذ من الحياد درعا يحتمي خلفه، ليمارس بعد ذلك سفاهة في التفكير تودي به إلى مهالك اللا إنسانية. هو يشكك في كل ما ينقل، لا يعترف بصور أو فيديوهات أو وثائق، لا يستمع لشهادات ولا يقبل كلام المؤسسات، هؤلاء في نظره جميعا "منحازون" وهو من ثم يرفضهم، إذ يقف على قمة برجه العاجي المبني من الحياد والتشكك. إلا أنه في ظل ذلك يفقد أهم خصائص إنسانيته، فحياده يفقده التواصل مع بشر سوريا المنتهكة حقوقهم والمنسحقة أجسادهم تحت وطئة الآلة العسكرية للنظام وحلفاءه، لذا فليس من الغريب أن نجده يتحدث في بعض الأحيان عن بقاء "الدولة" كمبادئ عامة نظرية مجردة، لا تحتمل حين تنزيلها على أرض الواقع سوى معنى التأييد، ولو من طرف خفي، للنظام وجرائمه. أو قد تجده من ناحية أخرى يتحدث عن الفوضى وعدم القدرة على الحكم على الأشياء، هو عمى من نوع خاص، حين لا تستطيع أن ترى الدم السائل في كل الطرقات، حين تنظر فلا تبصر الجثث في كل الأزقة، حين تمر عيناك على مدن مدمرة وأحياء محاصرة ومبان مهدمة ثم لا ترى أيا من ذلك، فقد ماتت عيناك بعد موت قلبك.
المتبرئ من الجميع
الكل في هذا العالم أشرار، وأنا أقف منافحا ضد طواحين الهواء. يبدو أن هذا هو شعار صنف من الناس، يرى الشر في كل شيء ماعداه. فهو يتعامل بمنطق أن الكل قد أخطأ ومن فلا مجال للتعاطف مع أحد. يتخفى هذا الصنف في مثالية فارغة تعلي من القيم لكنها لا تنظر لواقع الناس، فهناك في سوريا فصائل وميليشيات، جميعا ارتكب الخطايا، إذا فالكل مدان، متساو في الإدانة، ومن ثم فما يحدث في حلب هو جرم لطرف يقابله جرم لطرف آخر، وفي النهاية ننام قريري العين ممتلئي الجفون بعد أن أدنا كل الأطراف وانتصرنا في معركتنا الوهمية للقيم والانسانية. هذا الموقف الذي لا يعبر فقط عن السماجة، لكنه أيضا يتجاهل أبسط حقائق الصراع القائم بوجود طرف مسئول عن 94% من الضحايا فيما يتقاسم حلفاءه أجزاءا كبيرة من النسبة المتبقية من ضحايا الصراع، هذا الطرف يقوم بالفعل وفي نفس هذه اللحظة بمزيد من القتل والجرم، الأمر الذي يستدعي الإدانة المباشرة والحصرية لهذا الطرف القائم على القتل، لا إستدعاء كل الأطراف لمحاسبتهم عن خطاياهم حتى تضيع معالم المشهد حين توقف جميع الأطراف في صف واحد متساوي المسافات، وكأنه صراع بين أنداد، لا مجزرة يقوم بها جبار يدعمه جبابرة.
يعبر هذا الصنف عن موقفه دائما في ظل أسوء اللحظات انتهاكا لأحد الأطراف، بل هو ينتظر حين يقوم المجرم بأبشع جرائمه حتى يخرج لإدانة الجميع، في موقف لا يعبر عن أي مثالية سوى مثالية انتكاسة الفطرة الانسانية التي تنتفض حين ترى الانتهاكات الحادثة أمام عينيها فلا ترى سواها، حتى إذا ما هدأت لجأت للتحليل والتنظير، بعد أن يخفت الحزن والألم الذي هو عاصفها بكلتأكيد في لحظة الدم والدمار.
المحايد البارد هو ليس محايدا على الحقيقة، بل هو يتخذ من الحياد درعا يحتمي خلفه، ليمارس بعد ذلك سفاهة في التفكير تودي به إلى مهالك اللا إنسانية.
بين هذه الأصناف من البشر الذين انتكست فطرتهم وتدمرت إنسانيتهم حتى أصبح الدم وقودا لغيهم في ضلال الوحشية والضراوة الحيوانية الطابع، بل أسوء، بينهم نعيش ونحيا، نتقابل ونتحاور لكن هؤلاء لا تنفع معهم محاججة أو تدليل، فما فسد في النفس لا يصلحه العقل ولو بجهد جهيد، وهو جزء من مأساة اخرى، حين يدمر الاستبداد أتباعه ويقتل فطرتهم لكي يستحوذ على أرواحهم حتى بعد زواله.
نرجو من الله وندعوه ألا نكون من هلؤلاء الذي قال فيهم "فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ". اللهم نجنا من فتنة القسوة وبلاء الفطرة وابتلاء النفس الأمارة بالسوء.