
وزارة «التنوير» والتجارة الداخلية !
مهند حامد شادي
وزارة «التنوير» والتجارة الداخلية !
خرج علينا السيد إسلام البحيري بحوار مطول، بعد خروجه من محبسه، الأمر الذي نبارك له عليه وندعو الله ألا يرجع هو أو غيره إلى مثل تلك التجربة. مثل هذا الحوار، الذي دار على حلقتين في المصري اليوم، ما يمكن اعتباره تجسيدا لأفكار تيار كامل، هو تيار «التنوير الدولتي».
لا يهتم «التنويريون» بقضايا الحقوق إلا حق تغيير الديانة للمسلمين، ولا بقضايا الحريات إلا حرية التعبير عن انتقادهم للدين.
حرية على المقاس
لا يهتم «التنويريون» بقضايا الحقوق إلا حق تغيير الديانة للمسلمين، ولا بقضايا الحريات إلا حرية التعبير عن انتقادهم للدين، وهو أمر جسده حوار السيد إسلام البحيري الأخير، الذي بدا فيه وكأن الحالة الحقوقية في مصر لا تشوبها شائبة سوى ما حدث له و«للتنويريين»، بل وصل به الحال أن استنكر السماح «بفتح قنوات» للسلفيين، أو «ترك المساجد» لهم، فيما يعتبر أن أحد مشاكل ثورة يناير أنها أتت بالإخوان، ف «الديمقراطية التنويرية» لا يجب أن تأتي بإسلاميين. في المقابل فإيمانه بثلاثين يونيو ينبع من كونه «أحد صناعها، لأنها الشكل الذي كنا نريده لمصر بعد ثورة 25 يناير، هى جانب من انتصار عظيم للجانب والمقوم المدنى».
الحرية -إذن- في عرف هذا التيار غير مسموح بها سوى «للتنوير» و«التنويريين».
التنوير المصري: الجمع بين الشيء ونقيضه
بالرغم من أن فلسفة التنوير كما نشأت في أوروبا في القرن السابع والثامن عشر كانت حركة مجتمعية بالأساس، نادت -ضمن ما نادت- بانتهاء عصر الحكم بإسم الإله، وفتح مجال الحرية للمجتمع لاختيار حاكمه عبر عقد اجتماعي جديد، إلا أن تنويريي مصر الجدد لا ينفكون عن التحالف مع السلطة بل والتبرير المستمر لها، نرى السيد إسلام البحيري يحدثنا بشغف عن «عظمة» و«تاريخية» و«عالمية» قرار العفو الرئاسي عنه. بينما يقترح علينا في المقابل أن يتم إفراد مهمة «تجديد الخطاب الديني» لما سماه مجلسا أعلى للتنوير، برئاسة السيسي شخصيا وعضوية عددا من اعتبرهم ممثلي التنوير في مصر، ومن ضمنهم «شخصه البسيط».
تكون قرارات هذا المجلس ملزمة لكافة «أجهزة الدولة». فالتنوير كما يرى السيد إسلام وتياره هي مهمة الدولة فيما يبدو، الأمر الذي يتناقض بالكلية مع تاريخ فلسفة الاستنارة التي ينتسبون إليها، بل يتناقض مع طبيعة دولتنا المعاصرة والتي قام النظام الحاكم فيها، برئاسة نفس الشخص الذي يطلب السيد إسلام برئاسته لمجلس التنوير، قام من خلال أجهزته -كما يصرح- بتلفيق التهم له وحبسه في محاكمة بظروف غير عادلة -بحسب قوله-، نحن إذا نطالب من يقوم بحبس «التنويريين» برئاسة المجلس الأعلى للتنوير!
لا يقف تناقض «التنويريين الدولتيين» عند هذا الحد، بل إن من العجيب أن يطالب السيد إسلام أن يرأس شخص يرى في نفسه ملهما وطبيبا للفلاسفة يحلم بالساعة الأوميجا والسيف الأحمر، يقول عنه مؤيديه أنه نبي ورسول، يطلب أن يترأس مجلسا للتنوير الذي هو، كما ورد في فلسفته الأوروبية، إعمالا للعقل في مواجهة الغيبيات!!
التنوير بالنكهة الفلولية
يبدو أن تيار «التنوير الدولتي» لا يرى في الثورة أي عملية للتغيير أو الحرية، بل نجد أن السيد إسلام لا يكاد يرى في الثورة أي منجز، فيما يكيل المديح تلو الآخر لمبارك الذي «عمل حاجة للبلد مهما اختلفنا عليه» بحسب قوله.
يبدو أن تيار «التنوير الدولتي» لا يرى في الثورة أي عملية للتغيير أو الحرية، بل نجد أن السيد إسلام لا يكاد يرى في الثورة أي منجز!
التنوير البطولي
لا ينفك دعاة هذا التيار عن منح صفات البطولة لأنفسهم، فالسيد إسلام يحدثنا عن «ملايين الناس» الذين حزنوا على حبسه، فيما اعتبر أنه نقطة فاصلة في مسار الحريات لأن العفو الرئاسي الصادر بحقه «يؤكد رغبة السلطة في عدم اللجوء للعفو مرة أخرى فى مثل هذه القضايا، ويؤكد أيضًا الرغبة في عدم دخول مفكرين وكتاب رأى السجون، والبلد تتفضح بره، والعالم يتكلم، مصر رائدة الحريات في العالم، ولا يصح أن يكون بها سجين رأى مرة أخرى»، فهو «آخر سجين رأي في مصر» لا لشيء إلا لأنه «تنويري» أما غيره من النشطاء والسياسيين بل والباحثيين والحقوقيين فيبدو أنهم لم ينولوا شرف «التنوير» وبالطبع فحال عشرات الآلاف من مسجوني الرأي من الاسلاميين وغيرهم في مصر لا يرتقي لمستوى اعتبارهم خرقا للريادة العالمية للحريات، والسبب معروف، فهم ليسوا بتنوريين!
من حق الجميع أن يدعو إلى ما شاءوا، ومن حق الجميع أيضا انتقاد دعوات الآخرين، وإن كنا نقول بحرية التعبير عن الرأي فإن قولنا هذا لا يقتصر على تيار دون آخر، بل يشمل الجميع حتى من لا يدعون إلا لحرية أنفسهم لقول آراء متهافتة ضعيفة الحجة متناقضة العناصر. في المقابل فإنه من العجيب أن تكون أفكار دعاة التنوير ومواقفهم هي المعين الأول لتبرير الاستبداد وتمجيد المستبدين. إن دعوتنا للحرية تشمل الجميع، ولا تصادر على الآخرين على مقياس أفكارنا نحن، الأمر الذي نرجو أن يراجع فيه إخوتنا التنويريون أنفسهم.