رئيس التحرير: عادل صبري 06:53 مساءً | الأحد 06 يوليو 2025 م | 10 محرم 1447 هـ | الـقـاهـره °

الدين والفيزياء.. إعمار الأرض

الدين والفيزياء.. إعمار الأرض
12 فبراير 2017

الدين والفيزياء.. إعمار الأرض

عبدالناصر توفيق

الدين والفيزياء.. إعمار الأرض

 

الهدف الأسمى للدين هو إعمار الأرض, ورسالته الكبرى هي  قيادة البشرية نحو السعادتين الدنيوية والأخروية. ولا يعيقه عن أداء مهامه  أكثر من الأدعياء والدخلاء ,ولا يساعده فى إنجاز مهمته المقدسة تلك  غير سيدة العلوم, الفيزياء, والتي قدر الله لها دورها منذ أدم إبان تعليمه "الأسماء كلها". 

 

يقدم الدين منظومة قيمية, ويوفر أدوات ثقافية, ويقترح أساليبا حياتية, ويحدد أنماطا تضمن السعادة لمتبعيه فى حياتهم الدنيا, وهو من يقرر مصائرهم التي سيؤولون إليها في الحياة الأخري. وتأتي الشعائر والتكليفات الأخري لترسيخ الإمتثال لهذه القيم العليا للدين. وبالتالي يفترض فى الدين أنه من يدير كل الأنشطة البشرية الهادفة فى إعمار الأرض, وفي بناء الحضارات البشرية.

 

"المسلم لا يكذب" هكذا قرر الرسول الكريم. لكنه قد يسرق, أو قد يزني, أو قد يقتل. فربه الرحيم سيقبل منه توبته النصوح عن تلك الأثام. هذه القيمة ليست بحاجة لتنطعات المتنطعين ممن يقدحون أذهانهم مثلهم في هذا مثل المحامي الخبيث الذي يبحث عن ثغرات قانونية كي ينفذ منها موكله المقترف للذنب العظيم.

 

هذا مجرد مثال على القيم الناصعة للدين. وهو يوضح نوعا من السلوكيات الحياتية التي يجب على متبعيه أن يمتثلوها وخاصة أولئك الذين أتاهم الله قدرا رفيعا من العلم والعقل والفهم. فهؤلاء لا يأخذون دينهم عن إبن جهينة, ولا يركنون لشروحات إبن بقلول, ولا تتحدد حيواتهم من خلال تفسيرات قالها شيخ أو كاهن أو قسيس. لأن القاعدة الحاكمة تقول بأنه لا هؤلاء ولاغيرهم سيغنون عن الله شيئا. فالله لن يرحم الناس ولن يعذبهم بناءا على يدعيه هؤلاء. الله سبحانه وتعالي لن يحاسب الناس إلا بناءا علي دينه الذي أنزله هو سبحانه وتعالي على رسله الكرام.

 

لكن لا مناص من تقريب القيم الدينية للعوام, لأولئك الذين لم يرزقهم الله بالنباهة والحذق. خلال التفسير ليس مقبولا أن يحرف الدينَ عن جوهره. يجب أن نلاحظ أن فساد المفسرين لا يحدث دائما لأن لهم قدراتهم عقلية محدودة أو أن سلوكياتهم غير منضبطة, أو جراء تهاونهم عن بذل جهود أكبر. لكن المصيبة الكبري تأتي من خلال السلوكيات الإنتهازية, وخاصة تلك التي تتشكل بناءا على مجريات السياسة, وتلك التي تستدعيها الرغبة في تملق الحكام, ومثيلاتها التي تستدعيها الأطماع الدنيوية.

 

وعليه فالمفسرون الكبار لا يحظون منا إلا بكل التقدير والإجلال. لقد كانوا رجالا لم تلطخ ثيابهم الناصحة بشائبة. وأول الشارحين لم يكن بأقل مَقَام من الرسول الذي تنزلت عليه الآيات إبتداءا. فالرسول فى سنته الكريمة شرح ما أجمله القرآن الكريم, وشرح ما شرعه الله. لكنه أيضا - ولأنه الرسول الذي يؤخذ عنه الدين – زاد على دور المفسر. فقام بدور الواعظ, والمحذر, والمرغب, الزاجر, وغيرها من الأدوار التي ترسم لمتبعيه طريقهم حسب شرع الله القويم.

 

وأحاديثه صلي الله عليه وسلم تحمل الكثير من التحذير من سلوكيات بعينها, وتحبب الإتيان بأعمال معينة, وترغب فى الإستزادة من الخيرات. وقد يصاب البعض بالحيرة من سهولة الأعمال التي تدخل الجنة, ومن تلك السلوكيات البسيطة التي تودي الى نار جهنم. ولأن الله الكريم ليس متربصا بنا, فهو غير متلهف لخطأ نقترفه ليلقي بنا في النار. الله سيرانا عبادا طائعين إن نحن فقط حاولنا جهدنا. وإن أخطانا الطريق فعلينا بالتوبة السريعة, وسنجده سبحانه وتعالي غفورا رحيما.

الدين الصحيح هو الرسالة السماوية التي ورثناها من الرسل الكرام عبر أمناء كانوا لنا قدوة حسنة, ونرجوا الله أن نكونها لمن سيـأتي بعدنا! والتفسيرات التي اجتهدها الكبار من الفقهاء والمفسرين يمكننا إعتماد ما نشاء منها وأن ندع منها ما نشاء. فعلاقتنا بالله الخالق وبتعاليم دينه علاقة مباشرة.

 

السؤال الكبير والجوهري هو ماذا يريد الدين من البشرية؟ أو ما هو السبب العميق فى قضاء الله بإنزال دين معين علي البشرية؟ علي وجه اليقين الدين ليس فقط تشريع لطريقة دفن المتوفي, ولا لطقوسا محددة في دخول الحمام, وهو بروتوكولات صارمة تصف طريقة تغطية أو قص بعض  شعر الجسم, ولا هو مجرد شروحا للإغتسال وللتطهر, الخ.

 

ما أظن أنه الرسالة الحقيقية للدين كان قد حملها أولا  آدم عليه السلام. هذه كانت الأصل فى كل الرسائل السماوية التالية. فلو أن أبناء آدم بقوا أمناء على الرسالة التي حملها أبوهم الكريم, لما كانت هناك حاجة لإرسال الرسل أو لإبتعاث الأنبياء لاحقا! إن الرسل والأنبياء ما جاؤوا إلا لتصحيح المسار الإلهي الذي بدأه أدم عليه السلام.

 

أدم هو أبو البشر, خلقه الله بيده, وأسجد له الملائكة (بمن فيهم إبليس), وعلمه الأسماء (مبادئ العلوم الضرورية), وخلق له زوجته, وأسكنهما الجنة أولا. ثم أنزلهما الى الأرض ليكون هو وذريته من بعده خلفاءا لله فى الأرض. وهم في طريقهم لتحقيق مهام خلافة الله سيعترضهم الشيطان لكي يمحصهم الله. ولهذا فلن ينجح فى تلك المهمة المقدسة إلا أولائك الأبناء الذين لم يستطيع الشيطان غوايتهم.

 

قد نفهم من قصة آدم ومن مغزي غوايته, ومن رفض إبليس السجود له, أن الملائكة (بمن فيهم إبليس قبل عصيانه لأمر الله فى السجود لآدم) كانت تتردد على كوكب الأرض, وتعرف ماكان يحدث فيه. لأجل إصلاح أمر الأرض أطلع الله الملائكة بأنه "جاعل فى الأرض خليفة". ويبدو أن الملائكة أرادت القيام بهذه المهمة الكبيرة. لكن الله أراد خلقا جديدا تماما وقدر أن يخلقه من مادة الأرض, ولهذا مغزي هام. مهمة الخلق الجديد هي أن يكون سيدا على كوكب الأرض, وأن يرث ممالك الحيوانات التي كانت تسكنها قبله.

 

إذن شاءت إرادة الله أن آدم وذريته ستناط بهم "فقط" مهمة خلافته جل علاه فى الأرض, ومن ثم القيام على إعمار الأرض,  وتخليصها مما كان يحدث بها قبل إنزاله عليها. تقول القصة أن الأرض كانت الجن تسكنها, والنباتات تغطيها, والعديد من الحيوانات العملاقة (الديناصورات) تتخذها موطنا. أعلي تلك الحيوانات مرتبة كانت النسانيس.

 

يبدو أن الجن طغوا وتمردوا, وعصوا أمر ربهم, فبدلوا وغيروا, وأصبح إصلاح الأرض من خلالهم أو من خلال أي خلق آخر أمرا مستحيلا. ولهذا تصورت الملائكة – لقصر علم منهم - أن الخلق الجديد (البشر) سيسيرون على ذات خطا الجن فى آخر المطاف. فقالوا: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء". فقال عزّ من قائل: "إنّي أعلمُ مالاتعلمون", أي أنه سبحانه يعلم أن البشرية فى نهاية المطاف ستقوم بمهمة إصلاح وإعمار الأرض خير قيام. ولكي يساعدهم فى مهمتهم تلك قدر سبحانه أن يمدهم برسالته القدسية, أي بالدين ينزله على الرسل وبالقدوة الحسنة يأخذونها من الأنبياء.

 

خلافة الله فى الأرض والعمل على إعمارها كانت السبب في - أو الهدف من -  إنزال آدم علي كوكب الأرض. لفهم ذلك نشير إلي أن الديانات السماوية الثلاثة اتفقت في سرد قصة آدم عليه السلام, وفي حقيقة أنه قد عاش أولا فى الجنة, وفي خلق حواء من ذات مادته, وفى التحذير من الإقتراب من الشجرة المحرمة, وفى تقرير أن آدم قد وقع في غواية أنها ستمده بالعمر الأبدي, ومن ثم فى حادثة إنزاله وزوجه على كوكب الأرض.

 

السؤال الهام هو كيف يستطيع الإنسان تحقيق رسالة الإعمار القدسية؟ نحن نعرف أن القيم الدينية فى معظمها أخلاقية نوارنية, وهي بأي حال من الأحوال ليست تقنية, مهنية. فهي لم تحدد - على سبيل المثال - طرقا فى الزراعة, ولا أساليبا فى التعدين, ولم تشرح تقنيات لإستعمالها فى الإنشاءات المعمارية, ولم توفر وسائلا لمجرد مكافحة الكوارث الطبيعية.

 

أُنْزِل آدم وحواء على كوكب وهما لا يعرفان عنه شيئ, ذلك بعد ان كانا ينعمان بالجنة. كوكب الأرض كان شديد الوعودة, قاسي الطقس, مليي بحيوانات متوحشة هائلة الحجم, وتضربه الأعاصير والزلازل والبراكين. كل ما منحه الله لأدم "الأسماء كلها" أي مجرد رؤوس الموضوعات كما يقال فى المناهج التدريسية.

 

نأتي الآن الى بعض  الأسئلة البديهية. ما هو المصدر الذي تَحَصل منه الإنسان علي التقنيات التي تمكنه من إعمار الأرض؟ وكيف تمكن  من توفير عذائه؟ هل بالصيد؟ كيف له أن يعرف كيفية الصيد وهو من قضي حياته السابقة فى نعيم الجنة حيث لا عناء فى الحصول على الطعام ولا الشراب؟ ثم كيف تمكن بداهة من حفظ حياته أمام المخاطر الداهمة من الوحوش ومن التقلبات الجوية؟ هل عمد لبناء أعشاش أو أوكار, أو أكواخ؟ كيف يتعلم ذلك وهو خلال خبراته السابقة بالجنة لم يكن مضطرا لإهتمام بهذا الأمر البديهي؟

 

وهناك الكثير من الأسئلة التي ستدور فى أذهان العلماء عند تفكيرهم دراستهم للكائن البشري الذي كان ينعم بأقصي درجات النعيم فى الجنة عندما أنزله الله على كوكب الأرض, حيث كانت الأرض كوكبا موحشا مرعبا, تزمجر فيه الوحوش, وتصرخ فيه المفترسات والسباع, وتستعرض فيه الجن قدراتها النارية علي بقية المخلوقات.

 

لقد اقتضت حكمة الله أن يخلق خلقا جديدا لكي يوكل الله إليه بعهدة الخلافة, وليأمره بإعمار الكوكب. لقد كانت مهمة كبيرة لا يمكن تصور أن هذا الخلق الضئيل سيتمكن منها. هكذا رأت الملائكة هكذا أشرنا سالفا. قدر الله أن يجعل الملائكة تري بإم أعينها كيف يخلق الإنسان. طلب منهم إحضار بعض طين الأرض, ليشكله كما الإنسان, ثم لينفخ فيه سبحانه ليستحيل آدم.إأنها الإرادة الربانية وهي الإشارة الإلهية لبقية الخليقة أن المخلوق الجديد مصنوع من تراب الأرض بطريقة مختلفة عن تلك التي أشأ منها المخلوقات الأخري ذاتها.

 

في شرح طريقة خلق آدم أذاع الله إشارة علوية عمت مخلوقات الأرض والسماء بأن هناك عهدا جديدا سيراه الكون. فى حكم الله على الملائكة (بما فيهم إبليس) لتبجيل المخلوق الجديد إعلام بالمكانة فى تعليم الله له ب "بالأسماء كلها" إرهاصه بمدد علوي يخصه الله به. فى تقدير الله أن يحيا آدم وزوجه أولا فى ربوع الجنة إشارة إلي أن ذريتهما ستقوم بمهمة خاصة جدا. فى تحديد امتحان قاس أمام أدم وزوجهإاختبار لقدرتهما وتمهيد لإنزالهما لكوكب الأرض.

 

لقد استغرقت البشرية قرونا عديدة من التراكم المعرفي كي تتمكن أخيرا من فهم الظواهر الكونية, لتستطيع تفسيرها, والتنبؤ بها. شرحنا فى مقالات سابقة بعض المناهج العلمية التي قادتنا الي فهم دقيق للجسيمات الأولية ولأكبر الأجرام الكونية على حد سواء. لا شيئ يمكن أن يساعد علي تنفيذ خُطة الإعمار الربانية من الفهم العلمي (الفيزيائي) للأرض ولمستوطنيها ولمادتها ولكل ما يؤثر ويتأثر بها وفيها, وللكون من حولهم جميعا.

 

رأينا كيف أن الدين بمفرده لم يقدر له مساعدة الإنسان علي أعمار الأرض بمعني المعروف للإعمار من حيث تمهيد الطرق, نشر المعمار, ترويض الأنهار, شبكات الري وخطوط النقل, إبتكار آلات وتصنيع أجهزة, وخلافها.ذلك أن االدين يتناول الحياة الروحية, والعقائدية, والوجدانية للبشرية. وهي مقومات هامة فى بنيان الإنسان السوي. لكنها لا تضيف مباشرة الي مجهودات الإعمار والتكوين الحضاري للأمم.

 

ولا يكفي أن يقول أحدهم بأن الدين في تشجيعه على التَعَلُم وفي حثه على إمتلاك التقنيات العَمَلانِية هو الدليل على الدور الحيوي والمباشر للدين فى إعمار الأرض. ولايكفي أن يستدعي احدهم بعض من مؤشرات الإعجاز العلمي فى النصوص الدينية دليلا على دور الدين فى تَعلِيم البشرية علوما وتقنيات محددة. لم يحدث مطلقا - وللأسف الشديد - أن كانت النصوص الدينية هي المصدر الذي استقى منه العلماء علومهم وطوروا من خلاله المهندسون تقنياتهم. مايحدث هو العكس تماما, إذ يتم استدعاء مؤشرات الإعجاز العلمي بعد أن ينتهي العلماء من أبحاثهم والمهندسون من تطوير تقنياتهم, وليس قبلها. 

 

الحقيقة أن البشرية قد فَضَلها الله بمنحه إياها الدين بقيمه الأخلاقية, وبعُمقه الوجداني, وبفُتوحاته الروحية, وبقِيادته لها من خلال فُتوحاته النورانية على طريق العلم الشاقة, وفي دُروب مَسالك الترقي الرُوحانية. بهذا يتم التكامل بين الجانبين المادي والروحي للعالم وللمهندس, وهما من سيقوم على أكتافهما البناء الحضاري. ذلك المتدين المنقطع للدين فقط لن يضيف لمهمة أعمار الأرض التي كلف الله بها ذرية آدم. ولا ذلك العَالِم ذو الوجدان الأجوف (الغير متدين) سيستطيع الإتيان بإضافات هامة إلي البناء الحضاري الراسخ. كلاهما بحاجة لدعم صاحبه. لا يصح لأحدهما أن يستعلي على صاحبه. ولا يستقيم أن نُقَلل من دَوْر أي مِنْهما.

  • تعليقات فيسبوك
  • اعلان

    أحدث المقالات

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    محمد إبراهيم

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    السيئ الرئيس!

    سليمان الحكيم

    السيئ الرئيس!

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    علاء عريبى

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    تامر أبو عرب

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    ما جريمة عادل صبري؟

    يحيى حسين عبد الهادي

    ما جريمة عادل صبري؟

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    أميمة أحمد

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    محمد إبراهيم

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    عادل صبري حفيد النديم

    سليمان الحكيم

    عادل صبري حفيد النديم

    عادل صبري وترخيص الحي!

    علاء عريبى

    عادل صبري وترخيص الحي!

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية

    السيد موسى

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية