
الدين والفيزياء.. المتصوفة والفيزيائيون
عبدالناصر توفيق
الدين والفيزياء.. المتصوفة والفيزيائيون
نتناول في هذا المقال دور علماء الفيزياء والمتصوفة فى الإجابة عن ثان الأسئلة الوجودية. ذلك الذي لا يهدف لأقل من تحديد الآليات التي تضمن سعادة الحياة الحاضرة للإنسان, وسلامة البيئة المحيطة به. ومن أمثلتها الوصول للأنوار الربانية, واستكشاف ماهية كل ما قد تطيقه عقولنا البشرية, وغيرها.
ولأن الشيئ بالشيئ فالأرض كانت كوكبا بائسا قبل أن تُنَزيل البشرية عليها. ولم يقدم لساكنيه البيئة التي تسعدهم. بل على العكس تماما فقد كانت الأرضي بيئة قاسية, حتي أنها قضت على معظم الحيوانات والنباتات قضاءا مبرما.
ولم تعرف الأرض إزدهارا وتطورا إلا منذ عَمَرَها الإنسان. فقد ساهم الإنسان - على الرغم من حَمَاقاته المتكررة - فى إزدهار الحياة عليها. ويعتقد العلماء ذوي البصيرة النافذة أن الطبيعة البشرية والتي يعتقد انها أرضية – حيث أن مادته جائت حصريا من طين الأرض, توفر الضمانة الكبري والإستراتيجية فى قيامه بدور الفطري في حفظ الحياة على كوكب الأرض. وان الإنسان سيقوم بذات الدور مادام يسكن الأرض. وعليه يتوقعون أن المشاكل الخطيرة للتغيرات المناخية سيتلافاها الإنسان آجلا أم عاجلا.
فإعمار الأرض وبناء الحضارات هي أعمال يقوم بها الإنسان بدافع من فطرته السوية. من الناحية الأخري فهو فى سلوكه البناء هذا ينفذ أمرا دينيا أعمق من كل التكليفات الدينية الأخري. فلو أن البشرية من الذكاء بحيث تعتمد سلوكيات تضمن التناغم التام بين الفطرة السوية وبين الواجبات الدينية المقررة, عندها سيجد الإنسان سعادته القصوي, وسيحيا إرتقائه الروحي, وسيتذوق سموه العقائدي.
علي ذكر طبيعة البشرية نكمل الصورة بأن الحيوات الأخري للبناتات وللحيوانات أيضا تشترك مع الإنسان فى أن مادتها ذات أصل واحد, ومصدر ومنشأ كونيين, حيث عناصر الهيدروجين, والأكسجين, والكربون, و النيتروجين تمثل 97% من تركيب الإنسان.
الفيزياء هي العلم الحديث الوحيد المؤهل لمنافسة أو بالأحري لمكاملة الأديان السماوية. وكنا قد ذكرنا أن كليهما (الفيزياء والدين) يقدمان إجابات عن الأصل الذي نبتت منه البشرية, ويفسران المصدر الذي خلق منه الكون, ويصفان الأسس في تطور المعارف الإنسانية, ويعرفان المبادئ التي حكمت حركاتنا منذ الأزل والتي لم تهدف إلا لإعمار الأرض. أي أنهما قدما إجابات تتمحور حول الماضي, وتتناول الأصل, وتحدد المصدر. فالفيزياء "الصحيحة" متناغمة تمام التناغم مع الدين "الصحيح" في هذا المضمار على الأقل.
في هذا المقال سنتناول دور الفيزيائيين والصوفية فى تقريب السعادة للبشرية, وتوفير السلامة للكوكب الأرضي ولكافة ساكنيه ولمحيطه الكوني. فى معظمها إستهدفت الرسالات السماوية, وتمحورت الدراسات الفيزيائية حول الإنسان وسعادته.
الفيزياء الصحيحة هي تلك المعارف التي حصلنا علينا من دراساتنا للظواهر التي تعتري الجمادات, والأحياء, ومحيطها أو تشكلها او تنشأها بما فيها وصفها, وتوقعها, وقياسها, وتقنينها, وتقييمها, وإستخلاص ألياتها, وسبر أغوارها, وتحديد المبادئ التي تقوم عليها, وتطبيقاتها فى مجالات وظواهر أخري.
كل هذا التقدم العلمي نجحنا فى التوصل اليه بمنهج الشك التي أعاد له الحياة رينيه ديكارت (31 مارس 1596 - 11 فبراير 1650) وهو الذي يعرف ب "أبي الفلسفة الحديثة". فكل ما جاء بعده من معارف فلسفية منهجية تأسست على أطروحات ديكارت الرصينة. المنهج الفلسفي الذي وضعه إمانويل كانط (1724 - 1804) حدد طرقا منهجية للوصول الي المعارف العلمية.
ونحن نسير علي طريقهما (ديكارت وكانط) أمناء, تماما كما يسير النحويون على ما إبتكره سيبويه من قواعد, والشعراء في البحور التي شقها الخليل إبن أحمد الفراهيدي, والبناؤون على الأسس المعمارية التي وضعها إمنحوتب, والصيدلانيون علي التقنيات التي صاغها داوود الإنطاكي, وخلافه.
نظرية كانط مثلت نظاما مبتكرا في "نظرية المعرفة". فقد مزجت بين المدرستين التجريبية والعقلية. المدرسة التجريبية تتبني فكرة أن المعرفة لا تتأتي إلا من طريق التجربة ولا شيئ غيرها. أما المدرسة العقلية فتعتمد الشك الديكارتي وتري أن إمعان العقل هو الآلية الوحيدة للتوصل للمعرفة العلمية.
ولهذا جمع كانط بين الحسنيين. فهو يري ان العقل وحده دون التجربة لا يقود إلى المعرفة الحقيقية, بل علي العكس قد يؤدي إلى بعض الأوهام. أما من الناحية الأخري فالتجربة بمفردها فقد تقود إلى معرفة دقيقة لكنها لا تحدد المسبب الأول. هذا الأخير لا يتم التوصل اليه إلا بالعقل المجرد.
بواسطة ألية الشك وبمنهج كانط إستكشفت البشرية آفاقا واسعة أماطها الله أمامهم. ولا يختلف هذا عما يعرفه المتدينون عن الإلهام, أو الإجتباء أو الإصطفاء. لكنا هنا أصبحنا نعرف الطريق ومعالمه بصورة أكثر وضوحا عن ذي قبل.
الكبراء من الصوفية إن هم إرتقوا الي هذه المراتب العليا يزهدون فى دنيانا. وهم من خلال ادراكهم لوعورة الطريق التي سلكوا, ومن معرفتهم بالأنوار البربانية التي غمرتهم يرون من دونهم أقل قدرة على احتمال تلك المعارف الربانية التي منحهم إياها الله العليم القدير.
وهكذا سينقطع سيل المعرفة النورانية بإنقطاع أعمار هؤلاء المتصوفة. الأمر الآخر أنهم – ولهم الحق – نجدهم يحتقرون دنيانا, ويرون فى إلتفافنا حولها دونية أو دنيوية. هؤلاء - الصوفييون - سيسبحون فى فضاءات نورانية لانعرفها إلا إذا خبرناها بأنفسنا. فنجدهم "يستعلون" علي غير السالكين من بقية البشرية, وقد لا يتواصلون معهم. لكن الفيزيائيين يحملون على أكتافهم مسؤولية بناء الحضارة الأرضية, التي لا تهدف إلا الي تحسين حيوات البشر الطينيين.
وعليه فالمعارف الصوفية ترقي بمن يمتلكها ألي أسمي درجات الرقي الروحي, وتمهد لمن يمتلكها الطريق لرضوان الله. لكن الفلاحين, المهندسين, الحمالين, البناؤين, وقبلهم علماء الفيزياء ومن علي شاكلتهم هم من يعمرون الأرض وهم بهذا سيسعدون بقية بني البشر.
العلوم والمعارف التي جاء بها الرسل والأنبياء تحمل في طياتها كلا الصفتين: النورانية والأرضية الطينية. فالكتب المنزلة وسنن الرسل تحمل العلوم الدينية وبعضا من العلوم الدنيوية.
ومن هذا تستطيع الأن أن نضيف الى تعريفنا للفيزياء الصحيحة بأنها تلك المعارف التي توصلنا أليها من خلال منهجي ديكارت وكانط. ولا بد لنا من إعتماد تقريبات, وإفتراضات, وتبسيطات, وتخمينات, ونظريات, نفترض أنها تقربنا من الحقيقة أكثر وأكثر. فطريقنا نحو الحقيقة العلمية ليست معبدة تماما. وهي في ذلك تتشابه من مسالك المتصوفة العظام. ولهذا فالمتصوفة والفيزيائييون يعانون أشد المعاناة وهو يسيرون نحو غاياتهم العليا. وكل منهما يرجوا من الله أجره.
لله در العلماء الفيزيائييون فهم يجلبون لأنفسهم مشاق الطريق, ولا يحظون بالجائزة التي ينالها المتصوفة! فهم يضعون حيوات بني البشر نصب أعينهم, ويبذلون الغالي والرخيص لتسهيلها. إنهم كمن يحترقون لتزدهر الحضارة الأرضية.
فى الناحية الأخري ترتقي مراتب المتصوفة وتسمو كلما لَفَهم الغموض, وكلما بدأت مفرداتهم غريبة, وكلما شذت سلوكياتهم, وكلما تباعدت عن العوام عاداتهم, لدرجة إعتزالهم للناس, وإن عاشوا بين أظهرهم.
الفيزيائي لا تغريه إلا جائزة وحيدة, أن ينجح في إجتذاب أكبر عدد من العوام ليدوروا فى فلك معارفهم النبيلة. هدفه الأسمي أن ينشر علومه وأن يمنحها لأكبر عدد ممكن من البشريين (الطينيين).
لا مؤونة يحملها الفيزيائي فى طريقه الوعرة تلك سوي المنهج العلمي. وهو يعتقد جازما أن منهجه هذا ليس مثاليا دائما. فيضطر إلي التقريبات, والإفتراضات, والتبسيطات, والتخمينات, والنظريات. ولديه علم شبه يقيني بمحدداتها لدرجة أنه لا يخطر بباله أن يتغافل عن ذكرها حتي عندما يتوصل لنتيجة علمية مبهرة.
الفيزيائي الحقيقي يري ما دون الحقيقية سراب. ولا يذكر ما قد يتوصل إليه من معرفة علمية دون الإتيان على ذكر التقريبات, وعلي تفسير الإفتراضات, وعلي شرح التبسيطات, وعلي تفصيل التخمينات, وعلي وصف النظريات التي استعملنا, حيث أنها هي من قادتنا إلي ما نعتقد أنه الحقيقة العلمية, فبفضلها أمده الله بمدد من علمه الشامل.
وأزيدك من الشعر بيتا بأن أقول لك إن الفيزياء هي الحقيقة التي تثاب إن أعلنتها, ويلقيك الله فى ناره المستعرة إن أنت منعتها. هي في هذا قد تطال الدين قدسية. وكما أنك مدعو للدعوة الي الله, أنت أيضا مدعو للصدح بها لأنها أقدس العلوم. وهي العلم الأوحد الذي به قد تسبق من خلاله الصوفية الأطهار وصولا للحقيقة النورانية.
للخلاصة نقول أن البشرية أنزلت على كوكب برسالة قدسية واحدة. إنها رسالة خلافة الله فى الأرض والعمل على أعمارها. هكذا قررت الديانات السماوية الثلاثة, حيث تتفق جميعها تقريبا في سرد ذات القصة حول آدم, وخلق حواء, والتحذير من الإقتراب من الشجرة المحرمة, وفى وقوع آدم فى المحرم جراء الإغراء الباطل بأبدية بقائه, فى إنزاله وزوجه الى كوكب الأرض. والرسالات السماوية الثلاثة ما كانت ليقدرها الله لو أن أبناء آدم كانوا قد حافظوا على الرسالة التي تلقاها آدم من ربه. ولهذا فلا يجب عليها (الرسالات) إقتراح تعديلات على الرسالة الأصلية, بل فقط إعادة التذكير بها مع الإسهاب فى تفصيل كيفية عبادة الله.
لا يوجد علم يمكنه أن يتفوق على الفيزياء فى مجال مساندة البشرية لتحقيق رسالة الإعمار القدسية. وسبب ذلك بسيط لدرجة تجعله من البديهيات. فهي العلم الوحيد الذي يُسَلح البشرية بالمعارف الحقيقية والصحيحة والدقيقة التي تُؤهلهم لفهم الظواهر الكونية, ولتفسيرها, وللتنبؤ بها. ولا يوجد هناك شيئ آخر يمكنه أن يساعد علي تنفيذ خُطة الإعمار الربانية من الفهم العلمي (الفيزيائي) لكوكب لأرض ولمستوطنيه ولمادته ولكل ما يؤثر ويتأثر به وفيه, وللكون من حولهم جميعا.
بهذا شرحنا لبعض الأدوار التي يقوم بها المتصوفة والفيزيائيين في تعاملهم مع البشرية, وألمحنا الى بعض إسهاماتهم في إزدهار الحضارة البشرية. السؤال الهام هو هل نجح الدين فى تحقيق السعادة على الأرض؟ والسؤال المترتب عليه هو هل كان سينجح بمفرده؟ هذه الأسئلة تستحق أن نفرد لها مقالات تالية.