رئيس التحرير: عادل صبري 03:51 مساءً | السبت 05 يوليو 2025 م | 09 محرم 1447 هـ | الـقـاهـره °

تحدي العولمة

تحدي العولمة
10 يناير 2016

تحدي العولمة

سيف عبدالفتاح

هل يمكننا أن نتخلى ـ كعرب ومسلمين ـ وقد أتت علينا العولمة ونحن في أضعف حال وأوهن مقام، أن نتخلص من "جدل بيزنطة"، أو أعراض "برج بابل" و"علم كلام العولمة" أو أغراض شعرية تعبر عن حالة نفاق وكذب، فإن أعذب الشعر أكذبه؟


وهل لنا أن نتخلى عن أنماط التفكير التي تتعامل مع عالم المفاهيم الحديث، باعتبارها مفاهيم موضة لا نملك إلا ارتداءها؟ هل لنا أن نتحرك صوب فهم ووعي العولمة فنؤسس فقهًا لها، وقبل الفقه نبحث عن تأسيس "علم معلومات العولمة" نتعرف فيه كيف تم التمكين للعولمة على الأرض في غفلة منا وربما بإذعان، أو وفق قواعد هندسة الموافقة.


إن العولمة تتطلب مواجهة بما تمثله من تحديات من جنس حركتها نفسه وتصوراتها، والقضية ليست في تسجيل المواقف أو تبني توجها بعينه أو الدخول ضمن توجهات النقاش المحتدم حول العولمة في كل المجالات الاقتصادية والاتصالية والاجتماعية والسياسية والثقافية، هل يمكننا مرة أن نحاكي علم عمل العولمة؟ أن نتعلم أن العمل القليل الدائم هو خير عناصر المواجهة؟


إن الخروج من سياق التبشير بمفهوم "العولمة" أو التهوين من آثاره والمترتبات عليه لا يتم إلا من خلال مثل هذه الدراسات العلمية والعملية.


العولمة ليست القدر المحتوم، وليست التاريخ الذي أغلق أبوابه وانتهى بل هي تصور أعقب عمليات، للعالم، للإنسان والكون والحياة، تهدف من خلال ذلك التصور وتلك العمليات إلى علميات تضييق الاختلافات والتنوعات والتمايزات والخصوصيات، تهدف إلى التضييق لذلك على طريق التنميط، ونحن نؤمن بسنة الله تعالى أنه خلق الناس والكون في سعة الاختلاف والتمايز والتنوع ليشهد الكون تفاعلًا إيجابيًا وتعارفًا مثمرًا "فإذا ضاق الأمر اتسع" وأن النافع للناس، عموم الناس هو الذي يمكث في الأرض.


ونرى في تاريخ الدنيا على مر أيامها أنه ليس هناك مشروع ابتغى الاستئثار والهيمنة والطغيان إلا وحالفه الفشل وإن طالت أزمنته، ونحن مأمورون بالتذكر والاعتبار بأيام الله، فالعولمة ليست عملية بلا ثقوب، أو بلا مفاصل تمثل عناصر ضعفها، والعالم يشهد على ذلك بؤر صغيرة في العالم تستعصي وتأبى التنميط وهي خارج حسابات العولمة بكل أدواتها المعلوماتية وآلتها الحسابية، فعليك أن تجيل النظر في المعمورة لتبحث عن شواهد تؤكد أن العولمة من حيث أرادت التنميط ستؤدي إلى عكس ذلك المقصود، لأن مقصودها مخالف لسنة الله الكونية والبشرية في الاختلاف والتنوع والتعدد.


العولمة وبما أفرزته من أدوات، تعبر عن خطورة وإمكانية، والمخاطر لابد أن يحسب لها حسابها، والإمكانات لابد من استثمارها، إنه أمر يحرك علم دفع المضار وجلب المصالح الذي هو مدار شريعة الإسلام. فالعولمة من حيث أرادت أن تفكك وتركب، توحي للجميع أن يتعلموا كيف يعظمون قوتهم، وأن في تنوعهم رحمة وفي تكاملهم لحمة، وفي وحدتهم قوة وقدرة وتمكين وتأثير.


أين نحن من آليات ومؤسسات يجب أن ندافع عن تأسيسها لأنها تمثل الحصون التي تحمينا من مخاطر طوفان العولمة؟! هل لنا أن نتعلم درس العولمة، وأن نتعامل مع ابتلاء العولمة؟! أم ستكون العولمة علينا وليست لنا؟! ونحن نتجادل في علم كلامها وسجال وانتقال بالكلمات؟! إن أهم درس في العولمة هو معرفة عناصر مناهج التفكير والتغيير والتسيير والتدبير والتأثير العليلة والكليلة والتي استمرأنا التعايش معها زمنًا، فأتى طوفان العولمة فهل لم نفقد سفينة نوح، لو أحسنا التفكير والتدبير وآليات التفعيل والتأثير، وللتمكين سنن يجب أن نتعلمها ونعمل لها.


إن الحديث عن علاقة الإسلام بالعولمة أو موقفه منها يجب أن يتجاوز التوفيق بين الإسلام والعولمة "ليندمج في هذا العالم الجديد ويقوم برسالته من خلال تطويره وتجديده بالاجتهاد"، وليس كما نكرر دائمًا في المنتديات الفكرية وندافع عنه ضد تهم التخلف وإنما علينا أن نسأل: ما هي إشكالات العولمة مع الإنسان والمجتمع لأن الإسلام في جوهره رؤية للعالم بما يشتمل على رؤية للإنسان والمجتمع الإنساني ومقاصده هي مقاصد حفظ إنسانية هذا الإنسان وتماسك هذا المجتمع، وذلك في الزمان والمكان وعبر التاريخ.. كلٌ لا يتجزأ.. ومنظومة مترابطة معادية للتفكيك موالية للإنسان.


وإذا كانت العولمة تتحدى ذلك الإنسان وتفتت المجتمع وتنشئ ما سماه زيجموند باومان بالتجمع Togetherness على أنقاض المجتمع، ليعيش البشر في مدن كبرى لكن بروح فردية وجماعية هي بقايا وفتات(19) (Fragments).


القضية ليست رفض أو قبول، إنما الإشكالية الأكبر هي طرح الأسئلة الحقيقية وإدراك طبيعة العولمة التي نتحدث عنها: طبعتها الحقيقة لا المتوهمة حتى نستطيع التعامل مع قضاياها بوضوح وبشكل متفاعل ونقدي وتوليدي بناء، بدلًا من التعامل مع أسطورة كأساطير سبقت، فالدولة القومية التي كانت في حينها قضاءً لا مرد له، وحتمية تاريخية لبناء أمة ودولة لا دافع لها، فتم بناء الدولة على أشلاء الأمة، وتبين الآن في مرحلة "ما بعد" القومية ما فعلته "الدولة القومية" كمفهوم من جرائم في حق المجتمع كبشر وجماعات وقبائل وشعوب وثقافات وحدود وتفاعلات وأبنية وقيم.


المهم أن نتعامل مع عولمة حقيقية لا متخيلة.. وألا نسقط في هاوية تصور متخيل للعولمة، يمكن أن نطلق عليه وصف "Virtual Construction of Globalization "(20) كما ابتلعنا في صمت من قبل منظومة مفاهيم دون مراجعة التي كانت "Immagined" بدورها، فمن يجرؤ على التفكير والفهم والتفسير والتحدي وتقديم البديل؟ البديل الإنساني الإسلامي.


إن هذه الخرائط في النهاية تعني أن تخرج عالمية الحضارة من رحم غلبة معرفية وضعت الأنا الغربية في مواجهة العالم مثلما وضعتها في صراع مع ذاتها.


وفي الحالتين نهلت العالمية من معين الغلبة، حيث تأسس منطق الحضارة على قاعدة إثبات هذه الغلبة ضد حضارات الآخرين وضمن الذات الإنسانية في آن معًا، وبصورة مقارنة عن المسار الخاص لتاريخ العالم، ذلك المسار الذي أعطى للإنسان ثقة بذاته وتكاملًا بين أبعاده الوجودية، مثلما فتح للبشر أبواب التعارف والتفاعل.

هذه العناصر جميعًا تتيح ليس فقط إمكانات دراسة قضية العولمة، بل يتعدى الأمر كذلك لإمكانات المقارنة والنقد ضمن أنساق معرفية مختلفة ومتمايزة ورؤى حضارية متنوعة ومتعددة، فهل يمكن ضمن هذا التصور المقارنة بين رؤيتين للعالمية: العولمة المستندة إلى النموذج المعرفي الغربي، والعالمية المستندة إلى النموذج المعرفي الإسلامي، هل هذا جائز؟، وإن جاز فما هي المتطلبات المنهجية لإجراء مثل هذه المقارنات ضمن هذه المستويات المتعددة؟


كما أن هذه المقاربة لا تمهل النظر إلى العولمة باعتبارها عملية Process ومن ثم تقترب من "واقع العولمة" وإمكانات التعامل معه بحثيًا وواقعيًا على حد سواء.


خلاصة القول أن قضية العولمة، وفق هذا المسار والمساق، حالة بحثية نموذجية للتعامل مع قضايا كثيرة، نظن أن علم السياسة في منتوجاته العربية لم يقف عندها طويلًا، وربما حان الوقت ضمن حالة مفاهيمية اختلط فيها الأكاديمي بالإعلامي، والعلمي بالتبشيري، أن نحاول القيام بمثل هذه الدراسات المؤسسة على رصد ووصف وتوظيف من جانب، كمقدمات للنقد والتقويم وإعادة البناء من جانب آخر.


الحلقة الأولى: المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال 
الحلقة الثانية: إشكال الاختزال 
الحلقة الثالثة: النقد الذاتي فضيلة وفريضة وضرورة 
الحلقة الرابعة: الشريعة والمشروع 
الحلقة الخامسة: الأمة وعواقب الدولة القومية 
الحلقة السادسة: الأمة وعواقب الدولة القومية (2) 
الحلقة السابعة: الجماعة الوطنية اجتهاد في حق الوطن والمواطنة 
الحلقة الثامنة: أمتنا.. من المسألة الشرقية إلى الشرق الأوسط الكبير  
الحلقة التاسعة: مشروعان يتدافعان في المنطقة.. الأمة الوسط والشرق الأوسط الجديد
الحلقة العاشرة: مشروع التغيير الإسلامي والذاكرة الحضارية.. الخبرة والعبرة
الحلقة الحادية عشرة: خريطة التحديات الحضارية في العالم الإسلامي: التحديات الداخلية
الحلقة الثانية عشرة: التحديات الحضارية الخارجية وعالم المسلمين 

الحلقة الثالثة عشرة: التحديات الخارجية ومعضلة الدولة القومية والعلاقات الدولية

 

  • تعليقات فيسبوك
  • اعلان

    أحدث المقالات

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    محمد إبراهيم

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    السيئ الرئيس!

    سليمان الحكيم

    السيئ الرئيس!

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    علاء عريبى

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    تامر أبو عرب

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    ما جريمة عادل صبري؟

    يحيى حسين عبد الهادي

    ما جريمة عادل صبري؟

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    أميمة أحمد

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    محمد إبراهيم

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    عادل صبري حفيد النديم

    سليمان الحكيم

    عادل صبري حفيد النديم

    عادل صبري وترخيص الحي!

    علاء عريبى

    عادل صبري وترخيص الحي!

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية

    السيد موسى

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية