
راديو
أحمد ماهر
راديو
أغلق النور وتأكد من إحكام الظلام الدامس حول كل شيء، ثم بدأ يتحسس طريقه بصعوبة حتى وجده وسط الظلام، ساعده شعاع ضوء خفيف تسرب على استحياء من بين القضبان ليتأكد أنه هو وليستطيع بعدها أن يدير المؤشر، ولكن أصابته صدمة كبرى عندما لم يصدر منه أي صوت.
كانت مهمة التأكد من البطارية وسط الظلام قمة في الصعوبة، خصوصًا عندما وقعت البطاريات على الأرض، فقد ظل أكثر من ربع ساعة يتحسس الأرض ويطارد البطاريات التي هربت في الظلام كما لو كان هناك حياة بتلك البطاريات تجعلها تهرب من مصير ما، ولكن بعد ساعة من المعاناة والبحث في الظلام وجدها وأمسك بها كأنه أمسك العالم كله.
ابتسم في ارتياح وتأكد من تركيب سماعات الأذن الصغيرة من أجل كتم الصوت ثم أدار مؤشر الراديو الذي استطاع الحصول عليه لتلك الليلة، وتلك الليلة فقط، وتلك السويعات القليلة التي سيستطيع فقط الاحتفاظ بذلك الجهاز السحري حتى الصباح، إنه الراديو الذي أصبح الحصول عليه لعدة سويعات قليلة مهمة شاقة محفوفة بالمخاطر ولها العديد من التبعات والعواقب والعقوبات، إنه الراديو الجهاز السحري الذي لم يختف من العالم رغم كل هذا التقدم والتطور، إنه الراديو الذي أصبح الحصول عليه هو أقصى طموحاته في هذا العالم المظلم.
أدار المؤشر بهدوء حتى لا ينكشف أمره بصوت دوران مؤشر هذا الجهاز المتهالك، انتقل بين المحطات المختلفة بمنتهى السرعة إلى أن عثر على وجهته المنشودة، فقد انساب الصوت السحري الذي ظل ينتظر سماعه منذ فترة طويلة، إنه "لويس أرمسترونج".. إنها حلقة موسيقى الجاز التي تأتي مرة واحدة في الأسبوع على إذاعة البرنامج الموسيقي.
يا الله.. أخيرًا عاش حتى هذا اليوم الذي يستطيع سماع الموسيقى المحببة إليه مرة أخرى، لقد كان اليأس على وشك أن يسيطر عليه بعد بدء الإجراءات التعسفية معه في السجن، ولكن الله رحيم، إنها لمعجزة لا يستطيع تصديقها أن يستطيع سماع ساعة كاملة من موسيقى الجاز والبلوز في هذا المكان الكئيب.
تدفقت الموسيقى في انسياب، كأنها خيوط من حرير، لويس أرمسترونج، فرانك سيناترا، سيزيرا إفوارا، مايلز ديفيس، إنهم ملائكة الجاز والبلووز الذين لم يسمع موسيقاهم منذ زمن لا يتذكره، والذي اعتقد أنه لن يستمع لموسيقاهم بقية حياته.
استلقى على الأرض الباردة لمزيد من الاستمتاع بالموسيقى، هل هو في الجنة الآن؟ قفز إلى ذهنه هذا السؤال، هل في الجنة موسيقى جاز أو بلووز؟ قطع هذا السؤال العجيب خيالاته التي كان قد بدأ فيها منذ لحظات ولكن اقتحمه سؤال آخر، ولماذا قد لا يكون في الجنة موسيقى جاز؟.. الله أعلم، ربما!
نفض كل تلك التساؤلات العجيبة التي بدأت تتوالد وتتقافز حوله مثل الأرانب الصغار، وبدأ في معاناة البحث عن سيجارة وولاعة في ذلك الظلام كي لا يشعر به أحد، و كانت المشكلة أنه لا يتذكر أماكن السجائر القليلة التي ما يزال يحتفظ بها، ولا يتذكر مكان الولاعة، فهو قد أقلع عن التدخين منذ فترة طويلة لا يتذكرها، ولكن طالما هناك موسيقى جاز وحالة من الاسترخاء على البلاط البارد فلابد من سيجارة، فقط سيجارة واحدة ليستكمل حالة الاسترخاء في تلك السويعات القليلة قبل أن يعود إلى صاحبه في الصباح، هناك عدد من السجائر "الفرط" المتناثرة في عدة أماكن، كان بعض السجناء زملاءه قد "عزموا" بها عليه على مدار فترات طويلة، إنها عادة مصرية لا توجد في أي مكان في العالم، أن يصر شخص ما - ربما تكون هذه المرة الأولى التي تقابله فيها - على أن تأخذ منه سيجارة، وربما يقسم بالطلاق أنه عليك أن تأخذ منه سيجارة حتى إن لم تشعلها وتدخنها الآن، خذها وولعها بعدين، لماذا يعتبر بعض المصريين أن رفض السجائر كعزومة يعتبر إهانة؟
والله بطلت، والله بطلت، والله لتاخدها، حوار تعوّد على سماعه بأشكال متعددة ولكن ربما يكون لتلك السجائر الفرط القديمة المتناثرة حاجة الآن في هذه اللحظة الحالية التي ربما لن تتكرر.
أشعل السيجارة وظل يتأمل باستمتاع هذه الخيوط التي بدأت تتجمع وتتراقص من خلال شعاع الضوء الوحيد الذي تسرب من النافذة العالية، يتأمل نفسه وهو يرقص مع حبيبه بين تلك الخيوط المتراقصة من الدخان، يرقص على موسيقى الجاز المنبعثة من ذلك الراديو المتهالك الذي لن يمكث معه كثيرًا وسيعود في الصباح الباكر.
ظل يتأمل عدة مواقف سعيدة حدثت له في حياته، شاهد مرة أخرى أول مرة قابل فيها حبيبته التي تنتظر خروجه من السجن، تذكر لحظة الاعتراف بالحب تحت الأمطار الكثيفة، تذكر حضنها الدافئ وابتسامتها التي تبتسم معها كل الدنيا ونظره عينيها.
قطع صوت مفاجئ كل تخيلاته، أصابته حالة من الرعب الهستيري، هل سمعه أحد؟ هل عرف أحد أن معه راديو؟، هل أخبر أحد الحراس أن معه راديو هذه الليلة؟ وما المشكلة.. إنه ليس ممنوع في اللوائح وقد يكون هو الوحيد الذي ليس لديه راديو، إن حرمانه منه مجرد قرار فردي من الإدارة ولا توجد عقوبة على حيازته، إنه ليس ممنوعًا.
حاول تهدئة أعصابه وتهدئة التنفس، فلقد كان قلبه يخفق بشكل عجيب ومرعب كأنه مضخة مياه، كان على وشك سماع دقات قلبه، إنه يجزم أنه يسمع صوت قلبه بالفعل، لقد أصبح صوت دقات قلبه وكأنها طبل.
لا يوجد شيء، نظر يمينًا ويسارًا من "نظارة" الباب الحديد الضخم، لا يوجد شيء، لا يوجد أحد، فقط بضعة قطط تنتظر إلقاء بقايا الطعام، لعلها قط اصطدم بالباب في أثناء العراك مع الآخرين.
ظل ينظر في الظلام حوله لبرهة من الوقت حتى يتأكد، لا يوجد أحد، هدأ قليلًا وعاد للاستماع مرة أخرى للموسيقى والاستلقاء على البلاط البارد، لم تعد له حالة الاسترخاء الأولى بعد هذه "الخضة"، ولكن صوت فرانك سيناترا كان كفيلًا بإعادته إلى "الموود" بعد فترة انتقالية استمرت لعدة دقائق.
أشعل سيجارة أخرى لكي يستطيع الهدوء والعودة للحالة الأولى، هكذا قال لنفسه مبررًا إشعاله للسيجارة الثانية رغم أنه كان اتفق مع نفسه على سيجارة واحدة تكفي، بدأ في تخيل نفسه يرقص بين خيوط الدخان وخيوط الموسيقى التى تنساب حوله، وفجأة وجد يد غليظة تمتد إليه من "نظارة" الباب الحديد الضخم، يد ظهرت فجأة من العدم وامتدت خلال الباب وتشير إلى الراديو.. إنه الحارس كان ينظر إليه مبتسمًا بشماته كأنه وجد كنز، سمع صوت المفاتيح تدور في الباب، ثم سمع صوت قبيح يقول: هات البتاع ده واقلع هدومك علشان تروح التأديب!