
رمضان داخل السجن وخارجه
أحمد ماهر
رمضان داخل السجن وخارجه
أثناء كتابة هذه السطور يبدأ العد التنازلي لنهاية شهر رمضان المبارك، أيام قليلة ويحل علينا عيد الفطر المبارك، ولكن كالعادة بإحساس مختلف، أعتقد أنه ربما يكون إحساس مختلف هذا العام عن إحساس العاميين الماضيين.
إنه رمضان الثالث لي في السجن، وأيام قليلة ويهل عيد الفطر ثم عيد الأضحى، وكم هي قاسية تلك المناسبات وأنت مقيد الحرية، وأنت بعيد عن الأهل والأحباب.
والمناسبات الدينية أو "المواسم" لها طعم مختلف في مصر عن أماكن كثيرة في العالم، فعادة تكون مرتبطة بالبهجة والتجمعات العائلية والأطعمة المميزة وأحيانًا تكون مرتبطة بعادات قديمة لا تتغير منذ مئات السنين وربما آلاف السنين، وبسبب مشاعر البهجة و"اللمة" والتجمعات العائلية والاجتماعية والمظاهر الاحتفالية في رمضان والأعياد والمناسبات في الحياة العادية للمصريين يكون الوضع عكس ذلك تماماً أثناء نفس المناسبات ولكن داخل السجون، حيث تكون غاية فى الكآبة والحزن والملل والوحشة والاكتئاب الذي يشبه الموت البطيء.
رمضان داخل السجن.. لا يوجد إفطار مع العائلة والأحباب والأصدقاء، وليس هناك ولائم ولا عزائم ولا زيارات ولا إعادة تواصل مع من بعدتهم الحياة والمسافات، ولا يوجد بالطبع صلاة تراويح جماعية لأنه غير مسموح بصلاة الجماعة للمجرمين الخطرين من أمثالي، وبالطبع غير مسموح بصلاة العيد!
أما عن يومي عيد الفطر وعيد الأضحى فهما أكثر الأيام سوءًا وكآبة على نفسي.. حيث لا شمس ولا حياة ولا حركة ولا بشر، فقط حبس انفرادي وصمت تام لمدة 5 أيام أو أكثر حتى تنتهي ما يُطلق عليها "أيام الطوارئ" والتشديد بسبب أجازات الموظفين، ومنها بالطبع أجازات السادة الضباط حفظهم الله.
ولكن هذا العام قررت النظر للأشياء بشكل مختلف، أصبحت أنظر لنصف الكوب الممتلىء كما ينصحونا دائمًا، وبصراحة لا أعلم السبب الحقيقي لهذا التحول أو في هذه النظرة من زاوية مختلفة، هل هو التعود والتعايش بعد أكثر من31 شهرًا من الحبس؟ أم هي حيلة نفسية يلجأ لها العقل هربًا من الاكتئاب؟ أم هي حيلة لتذوق الأشياء بشكل مختلف؟ أم كل ما سبق؟
بداية وبشكل عام أنا أحب الصوم، رغم أن الصائمين أقلية داخل السجون، ولكن بشكل عام أحب عباده الصوم، وكان لي بعض الأصدقاء الذين كانوا يتسائلون.. لماذا يريد الله أن يعذبنا بالصوم، أنا لا أعتقد أن الصوم تعذيب، الحياة عموما معظمها هم وحزن وضغوط وفي رأيي أن الصوم من الأشياء التي تدرب على تحمل الصعاب، أنا أستمتع بالصيام، وكم تكون قطرة المياة عظيمة في لحظة الإفطار، الاستمتاع بالأكل لحظة الإفطار ليس لها مثيل.
أنا عن نفسي أيضًا تعلمت أشياء كثيرة من الصيام، واستطعت التخلص من بعض العادات السيئة عن طريق تكرار نفس إحساس الصيام، فالصوم تدريب جيد على تحمل الصعوبات والضغوط والمشقة.
ورغم أن الإضراب عن الطعام الذي يلجأ إليه المظلوم في السجون أكثر قسوة من الصيام، إلا أني أعتقد كذلك أن من يصوم عادة يستطيع تحمل الإضراب عن الطعام وقت الحاجة رغم الفارق.
وإن كنت أثق وأعتقد في الفائدة الروحية للصيام وفي قدرته على بث بعض الراحة في النفوس رغم بعض العصبية والمشادات التي قد تحدث بسبب نقص الجلوكوز في الدم، إلا أني كذلك لا أعتقد في ما يقوله معظم الأطباء عن الفوائد الصحة للصيام، فكما نجد معظم الأطباء في العالم العربي يتحدثون عن الفوائد الصحية للصوم هناك أيضًا رأي طبي مختلف، وفي رأيي أن الصوم قد يكون مفيد صحيًا فعلًا لو كان يعتمد على جوهر الصوم كالزهد وعدم الإسراف، وهناك العديد من التقارير الطبية التي تقول أن الصيام الأكثر فائدة أو الأقل ضررًا لابد أن يعتمد على الأكل الصحي المتوازن، وأن يكون الطعام بكميات قليلة جدًا، وأن يتم توزيع الأكل والشرب على الفترة بين الإفطار والسحور، وأن يتم تقليل الدهون والسكريات والكربوهيدرات مع الإكثار من الماء والخضراوات والفاكهة، وهذا بالطبع يختلف مع كل ما تعودنا عليه في مصر حيث رمضان هو شهر الصراعات وإضرار الجسد وليس الزهد والصيام وراحة الجسد.
وعودة لنصف الكوب الممتلىء بالنسبة لي، بإحساسي برمضان في السجن قد يكون أفضل في هذا العام، صحيح أني أتناول الإفطار والسحور وحيدًا في زنزانة صامتة صماء تشع جدرانها لهيب وكآبة طوال الليل والنهار، ولكن هناك العديد من المميزات التي لم تكن متاحة، مثل الهدوء والوقت، لا أتذكر أني استطعت صلاة التراويح كل أيام شهر رمضان قبل السجن، دائمًا هناك عزومة أو مسلسل أو موعد أو اجتماع أو مؤتمر أو مظاهرة أو حتى كسل، الحمد لله الذي رزقني الإحساس بحلاوة صلاة التراويح، حتى لو كانت في زنزانة ضيقة، فالأصل في الصلاة التراويح أنها فردية وليست جماعة، اللهم ارزقني الاستمرارية خارج السجن.
من مميزات رمضان في السجن أنه لا يوجد إلحاح على الأكل كما كان يحدث عادة، إنها فرصة لا تعوض من الأكل الصحي والمفيد والخفيف وقتما أريد وكيفما أريد.
إنه العام الثالث بدون تدخين، اللهم احفظها نعمة، والعام الثالث بدون زحمة مرور وبدون تلوث، رمضان الثالث بأقل قدر من الشوائب التي تعكر الصوم.
اللهم اجعل الكوب كله ممتلىء في رمضان القادم وليس نصفه فقط، رمضان وسط الأهل والأصدقاء.. رمضان به عبادة وصدق وقرب لله وابتعاد عن اللغو والشوائب، رمضان الحرية وعباده لله وحده.