
في رثاء العرّاب
آلاء الكسباني
في رثاء العرّاب
لم أكن في وعيي فور معرفتى بالخبر، كنت متيقنة لسبب ما غير مفهوم إن هذه محض إشاعة، طبعاً، لا يموت العرّاب هكذا فجأة، من المؤكد إنها مزحة سخيفة جداً أو كذبة أبريل وقعها ثقيل جداً على النفس!
ظللت أكذب الخبر رغم وقوع عينى عليه فى كل مكان، حتى أكده أقرب أصدقائه، وبدأ الناس يعزون أنفسهم بفقده، وأنا ما زلت مصرة أن ثمة شىء خاطئ، لا يمكن أن تنتهى الأمور بهذه البساطة الشديدة. رحل بدون وداع، بهدوء شديد، دون أن يسبب أى نوع من أنواع الضجة، "ميتة جيدة ونظيفة" كما وصفها فى كتابه "قهوة باليورانيوم"، بدون كلام كثير قد يوجع قلوب الكثيرين!
كنت مراهقة وحيدة جداً، لكن وحدتى تختلف عن وحدة الكثيرين، فوحدتى كانت تمتلىء بالبشر، بالأصدقاء والأهل والمعلمين، وهذا طبيعي بالنسبة لفتاة طريفة لامعة دراسياً، أشطر بنت فى المدرسة لسنوات كثيرة متتالية لا أذكر عددها حقاً، تخني الذاكرة فى هذا النوع من التفاصيل، لكننى أذكر بوضوح تام التيمة العامة للأحداث، كانت الدراسة هى السبب الوحيد حقاً فى التفات الجميع لى، فلولا ذلك لما كان لى أصدقاء من الأساس، حيث كانت شلة البنات الأشهر تحرص على اقترابى منهم لإننى مفيدة جداً أيام الامتحانات، والمعلمين لإننى مفيدة جداً فى مسابقات أوائل الطلبة، والأهل لإننى مفيدة جداً فى التفاخر أمام الآخرين، لكننى كنت دائماً أشعر بالغربة، كأننى لم أنتم بشكل ما لكل هذه الارتباطات أياً كانت مسمياتها!
لم أشعر أبداً بالانتماء، مهما كان عدد الأشخاص فى حياتى، كنت دائماً الغريبة، التى لا تعرف ما هو برنامج أكاديمية الغناء على قناة ال "ال.بي.سي"، أو من هو محمد عطية الفائز بالجائزة فى البرنامج، أو من هو أمير كرارة مذيع برنامج ستار ميكر، كنت أظل صامتة ساعات طويلة فى محل أحاديث لم يكن لى وجود فيها، ليس لإنى أكرهها، بل ببساطة لإننى لم أعرف بوجودها أصلاً، لينتهى اليوم الدراسى وأعود للمنزل شاعرةً بمزيد من الاغتراب، حتى ذلك اليوم، أثناء عودتى للمنزل بعد يوم دراسى مشحون جداً، خصوصاً بعد انتهائه بعدم قدرتى على منح "ش" زعيمة شلة البنات المعلومات المطلوبة فى امتحان الرياضة، لتقرر أن تُجنِد أحدهم ليسخر من وزنى، وقعت عينى على كتاب صغير فى حجم الجيب فى "فاترينة" مكتبة صغيرة فى الشارع الموازى للمدرسة، كُتِب على ظهره "سلسلة ما وراء الطبيعة"، لا أذكر حقيقةً أى عدد كان هذا، لكننى أذكر جيداً إننى فتحت العدد فوقعت عينى على "رفعت اسماعيل"، لا أعلم لماذا قررت فى هذه اللحظة تحديداً استخدام كل ما ادخرته من مصروفى لشراء هذا الكتاب، لم أكن قد قرأت قبلاً سوى قصص قصيرة للأطفال ابتاعتها لى أمى يوم عيد ميلادى، لكن شىء ما دفعنى لأن ابتاعه، وأحمله بداخل حقيبتى المدرسية، داخل كتاب الانجليزي تحديداً، لسُمكُه.
ريثما ذهبت للمنزل، كنت قد التهمت نصف الكتاب التهاماً، وكنت أحترق شوقاً لاستكماله، فأكملت قراءة وأنا أتصنع المذاكرة، واضعةً اياه بين طيات الكتب، وبدأت أجمع أى عدد تقع عليه عينى لاحقاً، لأخرج خارج سلسلة ما وراء الطبيعة باقتراب التحاقى بالجامعة، حتى صارت القراءة ملاذى الوحيد، بسبب مغامرات رفعت اسماعيل.
كان رفعت اسماعيل أول من علمنى إنه من العادى جداً أن يكون بطل الحكاية عادياً، لا يشترط أن يكون سوبر مان، من الممكن جداً أن يكون رجلاً يرى نفسه عجوزاً روحاً وشكلاً، وإنه ليس بالضرورة أن يكون البطل مفتول العضلات ذا بريق خاص لم تعهده نساء الكون، بل يمكن أن يكون رجلاً غريب الأطوار فى نظر الكثيرين، لم يتزوج لحبه للميتافيزيقيا، فلماذا لا أكون أنا بدورى يوماً ما، بطلة قصة، رغم غرابتى هذه؟!
ظللت أقرأ كثيراً، بسببه هو، أقرأ كتب من على الأرصفة يُباع الواحد فيها بخمسة جنيهات، وكتب من مكتبات ضخمة تبدو شهية جداً للأكل، حتى جاء اليوم الذى قرر فيها قلمى أن ينبثق للحياة، لأكتب كثيراً، وأدق باب الكثير من المجلات والجرائد، لكن لا أحد يعيرنى انتباهاً، وكنت حقاً على وشك أن أرمى الأمر برمته خلف ظهرى، لكن رفعت اسماعيل كان يلوح لى فى الأفق كلما فكرت بهذا، طارداً هذا الخاطر من عقلى، حتى أتى ذلك اليوم فعلاً، لأنشر مقالاً بأحد المواقع الالكترونية، لأول مرة فى حياتى، وحين فتحت الموقع لأمتع عينى بفرحة بداية الطريق، وجدت اسمى بجانب اسمه، أقسم إننى أخذت سكرين شوت واضحة جداً لأسمائنا سوياً، وظلت ولا تزال، علامة لبداية مشوارى الصغير، بكيت بفرحة غير مصدقة إن أستاذى الذى يعرفنى اسمه بجانب اسمى، وكأنه يرعانى بشكل ما، وكأنه عرابى الخاص.
كان العراب، رفيقاً لكل المغتربين فى الحياة، لكل من ظن إن ليس له صديق، أو أخ، أو حتى أب، كان اليد الذى تمسح عنا آلام الشعور بعدم الانتماء، والبقاء فى مصاف من لا يظهرون بمظهر البطل البراق دائماً، كان يُطمئنا بكتاباته، كل واحد منهم لديه قصة معه قد تتشابه كثيراً مع قصتى أو تختلف، لكن القام المشترك الذى لن ينكره أحد إنه كان معنا جميعاً بقلبه وروحه وقلمه، مقسماً لكل منا إنه لكلنا يوماً نسطع فيه كأبطال حقيقيين لقصصنا الخاصة، لنرى أياد تمتلئ بحب مثل حب د. رفعت وماجى، ومغامرات لن يخوضها غيرنا ولن يصدقنا أحد إذا حكيناها له، كان سند طيب الأثر فى نفوس كل من ظنوا بإنهم لا ينتمون، كان الكبير الذى نلجأ إليه فى أيام الوحدة، واليوم، بعد فراقه، نريد أن نبكى ونرتجف، أن نلتصق بأحد من الكبار بعده، لكن الحقيقية القاسية الآن، هى إننا أصبحنا الكبار.