
الرقص مقياس الوطنية الأول!
آلاء الكسباني
الرقص مقياس الوطنية الأول!
أستيقظ الثامنة صباحاً بيوم الإجازة الوحيد الذى أستطيع الحصول عليه من عملى الشاق بشركة أجنبية لا تعترف إطلاقاً براحة الجسد أو بتعبه، لا تعبأ البتة بوجود انفجار لعبوة ناسفة أزهقت بعض الأرواح وأصابت آخرين على بُعد شارع واحد فقط منها، لا تهتم لسلامة عامليها، وهم أيضاً لا يهتمون، لإن صوت ماكينة الـ "آيه.تي.إم" وقت نزول المرتب بها هو ما يذكرهم لما هم هنا، وهو تقريباً حلقة الوصل، حيث يظل الرابط الوحيد بينهم وبين عملهم كل صباح، حين يستيقظون متساءلين لماذا يجب أن أذهب اليوم لعمل لا يناسب طموحى ولا مهاراتى، أستيقظ على صوت حكيم المميز يغنى أغنية إيقاعها راقص وشعبى قليلاً، بصوت عالٍ للغاية يستحيل بعد قيامك من النوم مذعوراً بسببه أن تهنأ بساعة نوم إضافية، فى اليوم الوحيد الذى لا يُذكرك فيه المنبه بالرابط إياه، الذى شرحته تفصيلاً مُسبقاً.
أنظر من النافذة شبه مُغيبة ظناً إنها حنة أحد الجيران لاقتراب الصوت من شقتى بشكل جنونى مع إننى أسكن بالدور الـ ١٢، لأجدها مدرسة حكومية تقع على بُعد شارع واحد منى، انقلبت إلى لجنة انتخابية، لُتضئ لمبات عقلى الذى ما يزال يستوعب الموقف، بينجووووو، إن اليوم أول يوم بالانتخابات الرئاسية، لهذا يغنى حكيم "أبو الرجولة" ويصدح حسين الجسمى بـ "بشرة خير" وراءه مباشرةً، إذاً، ما فيهاش راحة النهاردة.
تظل الأغانى الذى يسبب تكرارها صرع ويدفعك لمحاولات انتحار تفشل فيها من عدم القدرة على التركيز فى قطع أوصالك بأداة حادة، تُعاد مرة تلو الآخرى، غير سامحةً لك باحتساء كوب من الشاى فى هدوء، مشاهدة فيلم، أو كتابة ما عليك من مقالات حان موعد تسليمها، أو حتى الخروج للتنزه، لكنك لا تستسلم، تُغلِق الشبابيك والأبواب والستائر فى محاولة بائسة لردع صوت إيهاب توفيق فى أغنية "تسلم الأيادى" من أن ينفذ إلى أعماقك، يبتعد قليلاً، لكن يأبى أن يخفت، لتظل عالقاً معه مدة طويلة.
قرابة الثمان ساعات متواصلة، تستمع لنفس الأغانى بنفس الحدة ونفس الضجيج، ومهما تهرب منها فى أحد أركان البيت يرد صداها لعقلك من ركن آخر لم تحسب له حساباً، وتقفز كل الأسئلة الوجودية لعقلك، أولها، لماذا هذا الحرص على إكساب الانتخابات شرعية فى حين إنه لا يوجد مرشحين آخرين من الأساس؟! ومن الذى سيُحاسِب على آخر علبة دواء للصداع التهمتها التهاماً، خصوصاً وقد وصل سعرها لأكثر من ثلاثين جنيهاً؟ ثم تتذكر إننا اليوم السادس والعشرين من الشهر، أى بقى يومين فقط على صوت ماكينة الـ "آيه.تي.إم" إياه، لربما يستطيع هذا أن يُخفف من جروح قلبك المتقرحة.
تقف الأغانى لفترة وجيزة، أظن إنها "جبرت كده"، أبدأ بمتابعة يومى بشكل إنسانى بدون ضوضاء مرهقة وغير منطقية بالمرة، وحين أتصفح الفيسبوك، أجد إن الأمر ظاهرة وطنية جداً لدى الكثيرين، بل منهم من نزل خصيصاً ليتراقص على أنغام الموسيقى العذبة التى لم أقدرها طبعاً أمام اللجان الانتخابية! فيديوهات وصور لا أول لها ولا آخر تعصف بمواقع التواصل الاجتماعى عصفاً، ترى فيها كل الطبقات، لكن من أعمار محددة جداً، تتراقص على أنغام اللجان الانتخابية رقصاً ولا كأنه "كتب كتاب أمك هو يا حسين"، تضعنى فى حالة صدمة، ليس لعدم اقتناعى بإنه ليس ثمة مؤيدين، حاشا لله، بل كانت دهشتى لذهابهم من الأساس، لاتفاجئ إنه ثمة مرشح آخر بورقة التصويت يجب التعليم على اسمه بعلامة خطأ ليجوز اعتبار الصوت صحيحاً!
فجأة، وبدون سابق إنذار، تعود الأغانى لتُشعِل حماسة الشارع من جديد، لأعود لنفس الأزمة الإنسانية، وتصبح الأغانى مع الوقت قيداً تكاد تختنق به لأبعد حد، خصوصاً وأنت تتذكر مع كل هذه الضوضاء أحلامك التى اُضطرِرت لتوديعها مراراً، لتشعر إن هذا ليس مكانك، ولتعود الأسئلة الوجودية لتتقافز إلى ذهنك، غير واعياً كلياً بالهذيان المحموم الذى يضطرم به عقلك، سائلاً مراراً: ماذا أفعل هنا يا جماعة؟!
يصبح مع الوقت الرقص هو المقياس الأساسى للوطنية كل عام، فتقرر أن تنفض عنك مبادئ الوطنية التى كنت تعتقد فى صحتها، أن تكف عن الأسى لحالك، أو عن تذكُرك الدائم لأحلامك التى راحت سدى، والتى أرغمتك الحياة هنا على التخلى عنها لتستطيع أن تعيش، تقرر أن تصبح كالجميع، لعلك ترتاح، لربما الاستمتاع بهذه الأغانى والتمايل عليها هو ما سيريح قلبك، لربما يجعلك مثلهم، تؤمن إيمانهم، وتتعلق بالقشة تماماً كما يتعلقون، لعل تنتابك القشعريرة التى من المؤكد إنها تنتابهم بسماعهم لهذه الأغانى، أكيد، لإنها طبعاً أغانٍ وطنية جداً، فيشتعل حماسك المزيف، والذى تعرف إنه مزيف، لكن ما علينا طبعاً، تُمسِك بالايشارب وتتحزم، وتبدأ فى الرقص، لكنك تكتشف إنك لا تستطيع، أو ربما، ربما يخرج فى رأسك عادل إمام بنفس نبرة صوته فى مسرحية شاهد ماشافش حاجة حينما قال "ثم أنا ماعنديش تليفون"، قائلاً "ثم أنا مش عارف أرقص، أو مش لاقى حد يطبلى"!