رئيس التحرير: عادل صبري 12:09 مساءً | الجمعة 09 مايو 2025 م | 11 ذو القعدة 1446 هـ | الـقـاهـره °

الأبيض والأسود.. ما بين الشك والحيرة

الأبيض والأسود.. ما بين الشك والحيرة
20 فبراير 2016

الأبيض والأسود.. ما بين الشك والحيرة

نور الدين إبراهيم

الأبيض والأسود.. ما بين الشك والحيرة

مشاهدة الأفلام تجربة ذاتية تمامًا...

ثلاثة أشخاص سيشاهدون نفس الفيلم وسيخرج كل واحد بإسقاطه وتفاعله الخاص مع الفيلم الذي يعتمد على أسلوب تفكيره وشعوره في تلك اللحظة وانعكاس ذاتي جدًا، لذا لا أعدكم أن يكون ما أكتبه هنا "موضوعيًا" فهذه المفردة لا توجد بالسينما، ولكني سأقدم لكم تجربة ذاتية للغاية آملًا أن يكون كما يقول وودي الآن في "الحب والموت".

 

"الذاتية في حد ذاتها موضوعية"

ويعتبر "البلوت تويست" أحد أهم تقنيات السينما فهذا ما سأفعله الآن؛ الفيلم الذي سأتحدث عنه لم يتم عرضه في السينما بالأساس!

 

هو فيلم تلفزيوني مقتبس عن مسرحية للكاتب الشهير- الذي ربما يعرفه عشاق السينما بفيلم No country for old men  - كورماك مكارثي تحمل نفس العنوان : "ذا سانسيت ليمتد" The Sunset Limited .

 

الفيلم من إنتاج عام 2011، أنتجتهHBO  وأخرجه تومي لي جونز وبطولة جونز نفسه وصمويل جاكسون، وهو عبارة عن حوار طويل بين بطليه اللذين لن نعرف اسميهما أبدًا ولكن في المسرحية يشار إليهما بالأبيض والأسود، رجلان يجلسان في غرفة مغلقة ومثل "في انتظار جودو" لبيكيت لا شيء يحدث، لا أحد يأتي ولا أحد يذهب.

ويظهر منذ البداية التناقض والسخرية المريرة التي يتناول بها المؤلف شخوص روايته: فالأبيض الذي يقوم بدوره تومي جونز هو أستاذ جامعة ملحد بنهاية مشواره؛ حانق، متشائم، مرير ويائس (عكس الصورة الذهنية التي قد يثيرها لديك اللون الأبيض) يحاول أن ينتحر بأن يلقي بنفسه أمام قطار مار.

 

أما الأسود هو مجرم تائب ومسجون سابق متدين للغاية ويؤمن بالخير وبتعاليم الإنجيل يلعب دوره صمويل جاكسون باقتدار شديد.

 

يبدأ الفيلم بمشهد – وهو المشهد الوحيد ولا يتغير- داخل حجرة فقيرة متواضعة الأثاث في شقة الرجل الأسود، توجد منضدة مستديرة في منتصف الحجرة يجلس الرجلان بها أمام أحداهما الآخر في رمزية أيقونية للتضاد بينهما، وهو ما سنشعر به طوال الفيلم، المبارزة الفكرية بين الطرفين هي أساس كل شيء.

نعرف مع البداية كيف التقيا، فقد حاول الأبيض أن ينتحر بالقفز أمام قطار خط "ذا سانسيت ليمتد" وهو اسم الفيلم– العديد من المترجمين أخطأوا بترجمة اسم الفيلم للغروب المحدود- فيقوم الأسود بإنقاذه وجلبه إلى منزله لتبدأ منازلة فكرية وجدال فلسفي مجرد يستمر لساعة ونصف عن قيمة الحياة وماهياتها وعن صوابية اختيار الهرب من بؤس العالم عن طريق الموت وعن عبثية كل شيء وغياب المعنى والاغتراب الذي يرافق الإنسان المعاصر في الحياة اليومية.

 

يعد الحوار كتقنية سردية أحد نقاط القوة لدى مكورماك منذ بداية مشواره، فبين الأبيض والأسود في "ذا سن سيت ليمتد" وبين الأب والابن في رائعته "الطريق" التي فاز بفضلها بجائزة بوليتزر العالمية، يبني مكارثي الرواية بشكل رئيسي حول الحوار بين مفاهيم فلسفية متضادة ليظهر تشابه كبير في بنية العملين.

 

يمكن تقسيم الفيلم أو بالأحرى الجدال الفلسفي الدائر خلال الفيلم إلى نصفين: ففي النصف الأول تجد الأسود يمضي متحمسًا متلمسًا طريقه حول الأستاذ المجهد ومحاولًا استكشاف الجذور التي أدت به للرغبة في الانتحار.

 

ويحاول – كسامري طيب - أن يقنع الأبيض أن الحياة تستحق أن نحياها، وأن الخير متأصل في العالم وأن علاج حيارى النفوس والضائعين يكمن في الإيمان بالله والتواصل معه والالتصاق بالإنجيل – أفضل كتاب في العالم كما يقول – وتعاليمه.

وتظهر لنا الطبيعة العدمية للأبيض المتشكك الذي فقد الإيمان بكل شيء، فبعد أن يرد بحدة على الأسود رافضًا إيمانه بالله والملائكة والشياطين وهذه الأشياء ومبينًا أنه يؤمن فقط "بالأشياء الثقافية والمعرفية كالفن والكتب والموسيقى" يعود ويخبرنا يائسًا أنه "كان" يؤمن بها وقد فقدت معناها أيضًا، لم يتبق له سوى إيمان واحد وهو: "الإيمان بـ السن ست ليمتد الموت، الفناء في العدم كأمل وحيد في الراحة والهرب من هذه المعاناة في عالم شبهه بمعسكر عبيد ضخم تخنقه التكنولوجيا وتنهار به كل مظاهر الحضارة ولم يعد يرغب في البقاء ليشهد فناءه بنفسه".

 

ويستمر الجدل الفلسفي ويتطرق الحديث إلى ماهيات الأشياء، فقدان المعنى، دور الدين ونقمة المعرفة، لمحات متتالية من وجودية بيكيت وسوداوية كافكا.

 

وقام تومي (المخرج) بتكثيف هذا النصف بصورة الرمزية في مشهد بدا عفويًا لأول وهلة حين جلس صمويل جاكسون على الكرسي واضعًا ساق فوق ساق وبجانبه تمدد تومي جونس مرهقًا على الأريكة في صورة أيقونية يتبادر فيها للذهن منظر عيادة نفسية فرويدية يمثل فيها صمويل الطبيب الذي يحاول تفهم آلام البروفيسور المنهك.

وفي النصف الثاني، تنعكس الصورة وتبدأ مرحلة النقد الفلسفي حيث يقوم الأبيض بتفتيت كل الثوابت الفكرية لما قاله الأسود ويبين له زيف أفكاره ويخبره أن الإنسان هو من قام بصنع الألهة وأنه مصدر الخير والشرور، وأن التطور لن يستطيع في النهاية أن يمنع الناس من إدراك الحقيقة الوحيدة وهي عبثية كل شيء وأن الناس إذا استطاعوا مثله رؤية العالم كما هو، دون أحلام أو خداع أو أوهام لاختاروا الانتحار جميعًا؛ فإذا أصغيت بسمعك لامتلاء السماء بأنين المعذبين وإذا أدركت حقيقة أنه لا يوجد إله فالدين لا يجهز الإنسان سوى لمجموعة أكبر من الأكاذيب والأوهام، والخوف من الموت وظل الفأس فوق كل متعة، فلماذا أرغب في ذلك؟

طوال مدة الفيلم يظهر الصراع بين الأبيض الذي لا يرغب سوى في الرحيل وبين الأسود المؤمن أن الله أرسله لإنقاذ هذا الرجل، محاولًا بطريقة أو بأخرى في كل مرة يطلب فيه الرحيل أن يرجوه ليبقى بمحاولة إثارة حماسه للنقاش.

 

وتظهر الحيرة الدائمة للأسود البسيط الذي "لا يعرف أي شيء في حياته سوى الإنجيل" أمام المنطق القوي والصعب للأستاذ الأبيض الذي يستخدم "تعبيرات قوية" ويملك ناصية الحديث بثقافته ومستواه الفكري المرتفع.

 

ويستخدم تومي جونز المخرج الكاميرا بشكل سلسل ورائع طوال الفيلم، فهو لا يرغب بتشتيتك بأي شيء، فحين يتحدث أحد الطرفين تجده يملأ أغلب الكادر بصورته بلقطةover the shoulder  من خلف المستمع ليضعك أنت –المشاهد– في مواجهة المتحدث.

 

ويدرك تومي جيدًا طبيعة الفيلم فلا يلتفت كثيرًا للتفاصيل الصغيرة في الخلفية ولا يواجهها بالكاميرا إلا إذا اقتدت ضرورة الحوار ذلك.

أثار الفيلم عقلي بشدة، فكورماك استخدم اللغة في هذه المقطوعة الفلسفية الرائعة بشكل مكثف وجميل، فالحوار متوازن إلى حد كبير ولم يحاول بشكل متعمد أن يميل الكفة إلى أحد الطرفين، ولكني وجدت نفسي أكثر توحدًا مع منطق البروفيسور، وأظن أن العديد ممن سيشاهدون هذا الفيلم من الجيل الذي أنتمي إليه، الجيل الذي عاصر آمال الثورة ومآلاتها الأخيرة، الممزق بين الاكتئاب والاغتراب واليائس الذي رأى تحطم كل ما آمن به في السنوات الأخيرة.

 

ولا أعني هنا فقط الثورة كمآل سياسي بل أقصد الصدمة التي واجهناها كجيل بمواجهة المجتمع فجأة، الاختبارات المتتالية التي لم تختبر فقط إيماننا ومبادئنا، بل أيضًا أجبرتنا على مراجعة كل إفكارنا وتصوراتنا عن الكون والحق والعدل بل ووجود الله ذاته.

 

يكثف مكورماك العالم كله في تلك الغرفة الصغيرة التي يتقابل فيها الضدان، ويضيف لها المخرج تومي الضوضاء وأصوات عربات الإسعاف المارة ونزاعات المدمنين والسكارى في ممرات المبنى ليشير إلى صخب العالم وصوت المعاناة الذي يزعج البروفيسور المتألم الذي لا يتمكن من احتمال "معرفته" بالألم والدمار الذي يحيق بالعالم بينما تجد الأسود المتدين لا يأبه لهذه الأصوات، إيمانه الثابت الأعمى يحصنه من الاستسلام لهذا الألم.

 

لا يريد أن ينهي مكورماك الفيلم بانتصار أحدهما، ولكننا نرى فشل الأسود المتتالي في مجابهة قوة منطق وثقافة الأستاذ العارف لينهي الأبيض حديثه بسيل عارم من الغضب الأسود: "أنت رجل طيب، وقد سمعت كلما لديك، ولا يوجد ما يمكنك إضافته... إلاهك  وقف في يوم ما في فجر البشرية أمام احتمالات لا نهائية لخلق هذا الكون وكان اختياره هو هذا العالم البائس القبيح!.

 

أنت تخبرني أن ما أرغب فيه حقًا هو حب الله؟ لا، أنا لا أريد حب الله، ربما أرغب في المغفرة لكن لا يوجد من أطلبها منه، لا يمكن أن أحاول مرة أخرى، ولا يمكن إصلاح الأمور، لا يوجد غد أو مستقبل، يوجد فقط أمل ضئيل وحيد في العدم، وأنا أتشبث بهذا الأمل"

 

ليخرج تاركًا الأسود متألما يناجي ربه غاضبًا: "لماذا أرسلتني إلى هنا؟ أنا لا أفهم !، إذا كنت تريد مني إنقاذه فلماذا لم تلهمني بالكلمات؟ لماذا أعطيته الكلمات ولم تعطني شيئًا؟"

 

ويعتبر الفيلم مباراة فكرية ممتعة، سيتركك مع العديد من الأسئلة: هل المعرفة نقمة؟ هل توجد الراحة حقًا في الإيمان المجرد؟ هل من الصواب أن نهرب من هذا العالم القاسي؟ هل يوجد عدل أصلًا؟ والعديد من الأسئلة الوجودية التي لن يعطيك إجابات محددة لها ولكن أعدك أن بعد مشاهدة الفيلم ربما تبصر العالم حولك بشكل مختلف قليلًا. 

  • تعليقات فيسبوك
  • اعلان

    أحدث المقالات

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    محمد إبراهيم

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    السيئ الرئيس!

    سليمان الحكيم

    السيئ الرئيس!

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    علاء عريبى

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    تامر أبو عرب

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    ما جريمة عادل صبري؟

    يحيى حسين عبد الهادي

    ما جريمة عادل صبري؟

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    أميمة أحمد

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    محمد إبراهيم

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    عادل صبري حفيد النديم

    سليمان الحكيم

    عادل صبري حفيد النديم

    عادل صبري وترخيص الحي!

    علاء عريبى

    عادل صبري وترخيص الحي!

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية

    السيد موسى

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية