نار لندن الموقدة
هاني بشر
نار لندن الموقدة
تمر العاصمة البريطانية لندن هذه الأيام بفترة من أكثر فتراتها التاريخية صعوبة. فإذا أردت اختصار الوضع السياسي والاقتصادي الحالي وأهم الأزمات التي تواجه البلد مع خلفية تاريخية فما عليك سوى النظر إلى حادث احتراق برج ذي ٢٤ طابقا بحي كنسنغتون بوسط المدينة. وهي الحادثة التي لم ولن تهدأ نتائجها وتداعياتها في القريب العاجل وسيكون لها ما بعدها. والمفاجأة أن العرب والمسلمين في قلب هذا الحديث كضحايا ومجني عليهم وأبطال في الوقت ذاته.
من عاش في بريطانيا أو زارها يعرف أن تجنب الحريق هو البند الأول في إجراءات الأمن والسلامة المتبعة في كل المؤسسات والبنايات. فهناك في كل مصلحة حكومية أو مدرسة أو جهة عمل شخص من ضمن الموظفين مسئول عن الأمن والسلامة ويجري اختبار هروب بعد إنذار مختلق للحريق لضمان سهولة خروج الناس من كافة منافذ المكان في حال حدوث أي حريق. هذا الأمر من أبجديات الحياة البريطانية للكبار والصغار. وفهم هذه الخلفية مهم لمعرفة معنى أن يشكو ساكنو بناية تابعة للبلدية من إجراءات مكافحة الحريق ولا يتلقون ردا عدة مرات حتى وقعت الكارثة.
مما زاد الطين بلة أن المبالغ المفترض توجيهها لإصلاحات المبنى الأساسية تم توجيهها للإنفاق على تجميل واجهة المبنى كي لا يزعج منظره الجيران الأغنياء. ليس هذا فحسب، بل إن المواد المستخدمة في التجميل كانت قابلة للاشتعال لتوفير مبلغ ستة آلاف جنيه بالمخالفة لإجراءات السلامة وأن الذي استفاد من صفقة التوريد هو أحد رجال الأعمال المتبرعين لحزب المحافظين الحاكم.
الأهم من كل هذا هو عدد المتوفين الذين يزداد عددهم يوما بعد آخر وتجاوز العدد وقت كتابة هذه السطور خمسين شخصا بعد أربعة أيام على الحادثة، بالإضافة للجرحى وعشرات العائلات التي فقدت منازلها. وبتتبع الأسماء المنشورة عنهم تكتشف أن معظمهم من العرب والمسلمين ذوي الدخل المحدود الذي يستفيدون من هذا النوع من المساكن الشعبية.
الحريق اندلع في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. ولأول مرة تعترف الصحف اليمينية البريطانية بأنه لولا العائلات المسلمة وشبابها الذين كانوا مستيقظين للسحور لكانت الفاجعة أكبر والضحايا أكثر. وذلك لأنهم كانوا يجوبون على الشقق يطرقون الأبواب ويطلبون من الناس مغادرة المبنى بسرعة بسبب عدم وجود أنظمة صفارات إنذار الحريق. وبعد أن خرج العشرات بلا مأوي فتحت لهم المساجد والكنائس المجاورة أبوابها. وتطوع عشرات من الشباب المسلمين يجمعون التبرعات ويوفرون المأكل والملبس لمن فقدوا منازلهم.
كل هذا كان يحدث وسط غياب لإدارة واحد من أغني الأحياء في لندن ورد فعل حكومي متباطئ. الأمر الذي أشعل فتيل غضب شعبي وصل إلى حد تنظيم مظاهرات اقتحمت مبنى البلدية واحتلته ومظاهرة أخرى توجهت إلى مقر رئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي منددة بموقفها من الأزمة. ماي نفسها وجهت بسيل من الهتاف ضدها من قبل الضحايا حين حاولت زيارة بعضهم في إحدى الكنائس المجاورة.
زعيم حزب العمال المعارض جيرمي كوربن دعا الحكومة لتسكين المشردين في المنازل الفارهة التي لا يسكنها أحد في هذه المنطقة. واعتبر عمدة لندن صادق خان أن الحادث كارثة وطنية كان يمكن تجنبها وأنها نتيجة سنوات من إهمال وتجاهل للمجالس البلدية المحلية.
الغضب العارم في المدينة سببه لا يعود لهذه الحادثة فقط ولكن لأن أنظمة الرعاية الاجتماعية ومن ضمنها مسألة السكن تتعرض لضربات متوالية من قبل حكومات حزب المحافظين المتعاقبة. وقد جاءت هذه الكارثة لتوضح ما هو معروف عن مشاكل الطبقات الدنيا والوسطى في المجتمع البريطاني من إهمال للبلديات وقلة المنازل وارتفاع الإيجارات وفساد في قطاعات الأمن والسلامة. في الوقت نفسه لم تتشكل حكومة بعد في أعقاب الانتخابات التشريعية التي أفرزت برلمانا معلقا لا يملك فيه أي حزب أغلبية مريحة تمكنه من الحكم بسهولة. وستؤثر هذه الكارثة على حظوظ الحكومة الجديدة وقد تؤدي لانتخابات مبكرة أخرى في غضون أشهر قليلة.
