
الرعاع والجياع
هاني بشر
الرعاع والجياع
لفت نظري أنه في الدول الغربية، وخاصة بريطانيا، لا يتم استخدام مصطلح "مواطن" إلا في نطاق الحديث عن اكتساب الجنسية والإجراءات القانونية. فيما عدا ذلك، فإن الكلمة غير متداولة على نطاق رسمي أو شعبي. بمعنى أنه لا يوجد مكتب خدمات المواطنين في أي جهة إدارة محلية مثلا لأن الخدمات العامة هي خدمات مقدمة لأي إنسان بغض النظر عن كونه حاملا لجنسية البلد أم لا. يستوي في ذلك أية شكاوي في الشرطة أو في أي أمر متعلق بالنظافة أو خدمات الطرق.. إلخ بالإضافة لذلك لا يوجد ما يسمى ببطاقة الهوية أو البطاقة الشخصية، لأنه ليس من الضروري أن تثبت من أنت ويكفي أنك إنسان موجود على هذه الأرض لتكون مستحقا للحقوق الأساسية بغض النظر عن درجة تعليمك أو مكان سكنك أو سنك أو جنسيتك.
بناء على ذلك، ليس هناك مجال لتقسيم الناس إلى رعاع ووجهاء أو أهل شر وأهل خير أو ولاد ناس وولاد كلب. يمكن الحديث مثلا عن أن منطقة أو مدينة معينة تعاني نقصا في خدمات معينة أو يعاني قطاع مهني من ضعف الرواتب كالمدرسين أو الممرضات. وهذه تقسيمة عرضية تشمل جنسيات وثقافات وطبقات اجتماعية شتى تختلف عن التقسيمات الطولية للمجتمعات بناء على هرم طبقي.
والسؤال الذي يتبادر لذهن كثيرين يتعلق بمدى إمكانية مكافحة الجريمة في هذا النظام. والإجابة تتلخص في نظام تحقيق الأمن غير المتعارض مع المعايير التي ذكرناها سلفا. إذ ليس من الضروري تعريف المجرم في إطار مهني أو اجتماعي أو ديني معين. فالمجرم مجرم لارتكابه فعلا يقع في نطاق الجرائم ورصدته وسائل الرصد بناء على بلاغ أو كاميرا مراقبة، وسواء أكان هذا المجرم غنيا أو فقيرا. وهناك مناطق تنتشر فيها الجريمة بنسبة أكبر وأحياء بكاملها لا تعد آمنة بدرجة كبيرة، لكن أحد مسئوليات الإدارة الحكومية والمحلية هو التعامل مع هذه الأحياء في إطار خطط تطوير لتنتقل من هذا المستوى لدرجة أمان أعلى. وقد تحقق هذا مع عدد من الأحياء كانت مشهورة بالمخدرات والسرقة في المدن الأوروبية.
إن فكرة الفصل بين الخدمات العامة وبين دوائر انتماء الأفراد المستفيدين منها ليست قاصرة على التجربة الغربية لأنها متكررة تاريخيا في كثير من الدول والحضارات. المشكلة كلها في دولنا حين تتسع دائرة إقصاء المخالفين سياسيا لتشمل المختلفين اقتصاديا ثم تمتد لتشمل كل من المعلقين والساخرين من خارج دوائر السياسة لينتهي المطاف بتقسيمتين للناس إحداها هي المواطنون شرفاء والثانية هي الرعاع. هؤلاء المواطنون الشرفاء يحظون بالشرف لأنهم أولا مواطنون، أي حاملو الجنسية، وثانيا لأنهم مؤيدين للنظام الحاكم. وبالتالي فإن غير المجنسين أو المعارضين فليست لهم حقوق المواطنة أو هذا النوع من الشرف، ويمكن وصفهم بالخونة أو العملاء للخارج. والرعاع هي طبقة أدنى من المواطنين الشرفاء وفقا لهذه التقسيمة، إذا أخطأت تعاقب بأشد أنواع العقاب الفردي والجماعي ولا تقارن أخطائها بأخطاء المواطنين الشرفاء. وبالتالي إذا خرج منهم سباب فهم بذيؤون وإذا استخدام المواطنون الشرفاء ذات السباب فهي مجرد ألفاظ اعتراض. بمعنى آخر، "قوم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد".
لا يمكن لأي سلطة أن تصنف الناس إلى مواطنين شرفاء ورعاع لأنها ببساطة مسئولة عن خدمة الجميع وليس تصنيف الجميع. وهي ليست مسئولة عن أخلاق من تسميهم رعاعا بقدر مسئوليتها عن إطعام الجياع. فإذا فشلت في توفير مستوى اقتصادي كريم للجميع فلترحل ويأتي من هو قادر على أداء المهمة. لكن السلطات من هذا النوع لا ترحل بسهولة ولكن تصدر مشاكلها الأخلاقية والسياسية والاقتصادية لمن تسميهم رعاعا. وبمرور الوقت تصدق السلطة ودوائرها هذه التقسيمة غير الإنسانية وتنحدر بصورة كبيرة إلى مستنقع التمييز والتفرقة بين البشر وهذه جريمة في كل الأديان والشرائع القانونية.