صلاح الدين الأيوبي والإمبريالية الإسلامية
هاني بشر
صلاح الدين الأيوبي والإمبريالية الإسلامية
التاريخ يكتبه دائما المنتصرون وهم غالبا في صراع مع الرواية التاريخية حسب التنقيح العلمي. وفي فترات الصعود الحضاري للأمم تكون لديها الشجاعة لتراجع تدوين تاريخها لتعيد الاعتبار لشخصيات وتكشف زيف أخرى. وما وصف الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون ميراث بلاده الاستعماري في الجزائر ببعيد. إذ وصف تصرفات المحتلين الفرنسيين هناك بالوحشية وغير الإنسانية.
وإذا كانت لكل أمة مرحلتها الإمبريالية الحديثة، حيث التوسع العسكري لضم الأراضي وفرض النفوذ، فإن مرحلتنا الحديثة كانت مع محمد علي. وهو تاريخ إمبريالي شهد مظالم كثيرة قد يأتي على مصر حكم ديموقراطي شجاع يعيد تدوين هذه المرحلة ويعتذر إلى من يستحقون الاعتذار إليهم.
وحين يقفز شخص على التاريخ الحديث ليصل إلى عدة قرون للوراء يستدعي شخصيات ومعارك منبتة الصلة عن الواقع الحالي، فهذا ليس مراجعة إنسانية للتاريخ بقدر ما هي أدلجة حديثة له. كلنا شاهدنا فيلم صلاح الدين ليوسف شاهين ورأينا كيف يتحدث صلاح الدين في الفيلم عن القومية العربية والعرب وهو لم يكن عربيا أصلا. وهنا لا أدين الفيلم ولا أدين يوسف شاهين، فهما أبناء أوفياء لمدرسة فرنسية في السينما شديدة الالتصاق برؤية المخرج الجمالية أكثر من مجرد تجسيد فني للتاريخ. لكننا رأينا تماهيا لرؤية المخرج في ذلك الحين مع النظام السياسي القائم آنذاك في عهد جمال عبد الناصر. وهو أمر مقبول فنيا لكنه قابل للنقاش والنقد سياسيا.
تصريحات يوسف زيدان الأخيرة عن صلاح الدين الأيوبي لا هي رؤية فنية ولا هي رؤية تاريخية لأنه ليس بمؤرخ فهو أستاذ فلسفة. هي محاولة أدلجة التاريخ عبر استدعاء بعض رموزه في قالب فانتازيا. وهذا الأمر قابل للحدوث مع كل الشخصيات التاريخية بالمناسبة. ولست من الذين يرون في سيرة صلاح الدين أي شيء مقدس لكن ما أطالب به أن تتم مراجعة ذلك في ضوء منهجية علمية واضحة ومبادئ محايدة في الحكم عليه وعلى غيره. فحين يسب كثير من الشيعة مثلا صلاح الدين الأيوبي اليوم لأنه كان دمويا برأيهم ويسكتون تماما على تصرفات الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله أو دور إيران حاليا في سوريا فهذا تناقض يثبت غلبة ما هو أيديولوجي على ما هو علمي وإنساني. وبالتالي لا نكون أمام كشف وتنقيح للرواية التاريخية بقدر ما هو تطويع للتاريخ لخدمة فكرة محددة.
ورغم تحفظي الشديد على المشاركة في المعارك الفرعية التي تنشب بسبب تصريح هنا أو هناك، إلا أنه من حسنات تصريحات يوسف زيدان التي أختلف معها أنها دفعت كثيرين للبحث عن شخصية صلاح الدين. وهو بحث يتجاوز الدور المشهور كقائد عسكري هزم الصليبيين وحرر القدس. وطالما كثرت الأسئلة وتعدد الباحثون فلا تخاف على الحقيقة لأنها موجودة دائما بين ثنايا الكتب والمراجع التاريخية ولا تحتاج سوى شغف للمعرفة.
إن القائد يوسف بن أيوب بن شاذي المعروف بصلاح الدين كان وزيرا عند الفاطميين الشيعة وبعدما أصبح سلطانا وقائدا عسكريا منتصرا، مات وليس لديه من متاع الدنيا شيئا. وقد أحيا الدكتور عبد الرحمن عزام سيرته في كتاب هام بعنوان "صلاح الدين وإحياء المذهب السني". وعزام هو حفيد عبد الرحمن باشا عزام مؤسس وأول أمين عام لجامعة الدول العربية وكتابه صدر باللغة الإنجليزية عن رسالته للدكتوراه بجامعة أوكسفورد البريطانية. وقد ترجم الكتاب للغة العربية المؤرخ الدكتور قاسم عبده قاسم وكتب مقدمة بديعة للكتاب يشرح ويحلل ما جاء فيه.
أهم ما ورد في هذا الكتاب هو مناقشة السيرة الفكرية لصلاح الدين وعصره ودوره في إحياء وتجديد المذهب السني في هذه الفترة العصيبة من تاريخ العالم الإسلامي وهو يتعرض لهجمات استعمارية أوروبية ترفع شعار الصليب. والأهم من ذلك أن الكتاب رسالة علمية منقحة ومنضبطة بأصول البحث العلمي وفق مستوى عال من المنهجية البحثية لا تتهاون معها جامعة مثل أوكسفورد. وهو من الكتب الصادرة حديثا وأرشحها لكل من أراد التعرف بطريقة نقدية على صلاح الدين الأيوبي.
