
كيف يواجه المثقفون بلاء المكارثية؟
محمد سيف الدولة
كيف يواجه المثقفون بلاء المكارثية؟
الاستبداد، العصف بالحقوق والحريات، اجتثاث الخصوم والطعن فى وطنيتهم واغتيالهم سياسيًا ومعنويًا، زراعة الخوف بين الناس باستدعاء أعداء وهميين أو تضخيم المخاطر الخارجية، إهدار الدساتير والقوانين، التفتيش فى الأفكار والضمائر، منع التعدد والاختلاف وتجريم الرأى الآخر، مطاردة المعارضة وعزلها وحظرها وتشويهها، تلفيق وفبركة التهم، محاكمات وإدانات بالجملة خارج أسس وقواعد وضمانات العدالة، أجواء من التحريض والكراهية، هيمنة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، وسيطرة كاملة على كل المنابر الإعلامية والصحفية والفكرية والفنية والتعليمية، نفاق مأجور أو بالإكراه، قوانين وإجراءات استثنائية، سقوط آلاف من الضحايا الأبرياء، انتشار الخوف بين الجميع، هجرة وانسحاب قطاعات واسعة من المثقفين والسياسيين والشباب، العبث بمصائر الناس وأمنها والقذف بها فى مهب الريح.
هذه بعض خصائص ما يسمى بالمكارثية.
***
بعد الحرب العالمية الثانية، قام الكونجرس الأمريكى بتشكيل لجنة لمواجهة ما يسمى "بالخطر الشيوعى"، أطلق عليها لجنة "التحقيق فى النشاطات غير الأمريكية". وتحت هذا الشعار، قاموا ببث الخوف لدى قطاعات كبيرة من المواطنين الأمريكيين من المخاطر الخارجية التى تتعرض لها أمريكا. وتوظيف هذا الخوف لتبرير وشرعنة حملات مطاردة واسعة لأى معارضة للنظام وسياساته، سواء كانت يسارية أو حتى ليبرالية.
وهى الحملة السوداء ووصمة العار الشهيرة التى عرفت فى التاريخ الأمريكى والعالم كله باسم "المكارثية"، نسبة إلى السيناتور جوزيف مكارثي، والتى استمرت بعده لتطارد مناهضى الحرب الفيتنامية. والتى أصبحت فيما بعد، ترمز الى كل النظم أو الممارسات الاستبدادية المماثلة فى أي مكان بالعالم، التى تسعى للقضاء على أي معارضة سياسية، والحجر على حرية الانتماء والفكر والاعتقاد والرأى والتعبير والمشاركة.
***
وفيما يلى مقتطفات من صفحة نضال المثقفين ضد المكارثية والاستبداد والدكتاتورية الأمريكية، أى ضد أكثر النظم التى عرفتها البشرية قوة وعدونا ووحشية.
أينشتين:
هاجمته اللجنة المذكورة بوصفه محرضًا أجنبيًا، وطالبت الشعب الأمريكى بالحذر منه ! فتحداها ورد عليها فى خطاب نشرته النيويورك تايمز، جاء فيه:
"إن المشكلة التى تواجه مثقفى هذا البلد بالغة الخطورة؛ فقد استطاع السياسيون الرجعيون أن يغرسوا الشك لدى الجمهور فى كل جمهور المثقفين بالتلويح أمام أعينهم بخطر من الخارج. وإذ نجحوا حتى الآن في أن يتقدمون لكبت حرية التعليم وليحرموا من مناصبهم كل أولئك الذين لا يثبتون خضوعهم، أى يميتوهم جوعًا".
ماذا يجب أن تفعل الأقلية المثقفة ضد هذا الشر؟
بصراحة لا يمكننى سوى أن أرى الطريقة الثورية فى عدم التعاون بالمعنى الذى وضعه غاندى. فيجب أن يرفض كل مثقف يستدعى للمثول أمام إحدى اللجان أن يشهد، أى لابد أن يكون مستعدا للسجن والدمار الاقتصادى، وباختصار، للتضحية برفاهيته الشخصية لصالح الرفاهية الثقافية لهذا البلد.
وإذا استعد عدد كاف من الناس لاتخاذ هذه الخطوة الخطيرة فإنهم سينجحون. وإذا لم يفعلوا، فإن مثقفى هذا البلد لا يستحقون شيئًا أفضل من الاستعباد الذى ينتظرهم".
وبعد وفاة أينشتين، نعاه أحد المثقفين الأمريكان بالكلمات التالية:
"إن الرجل الذى كان يبحث عن تناسق جديد فى السماوات وفى الذرة، كان يبحث أيضًا عن النظام والعدل فى علاقات البشر. وبوصفه أعظم مثقف فى عالمنا المعاصر، حارب الفاشية فى كل مكان وكان يخشى علاماتها فى بلادنا. وهذه هى الروح التى نصح بها المثقفين الأمريكيين بتحدى تحقيق الكونجرس ورفض تعريض أنفسهم للتساؤل الأيديولوجي".
***
آرثر جارفيلد هايس ـ مؤسس ورئيس الاتحاد الأمريكى للحريات المدنية
"إن منهج الفاشيين، منهج هتلر وموسولينى، كان إثارة الرعب من الحمر ثم كبت حريات الشعب لحمايته من الحمر. وقد حان الوقت لندرك أن تكنيك إصدار القوانين لحمايتنا من الأخطار الوهمية هو شئ معاد للحرية، وما نحتاجه فى هذا البلد هو رجال لا يؤمنون فقط بالحرية بل لا يخشون منها".
ولقد قام "هايس" بتقديم اقتراح ساخر للجنة أثناء التحقيق معه، فحواه أن يقوم الكونجرس بإصدار قانون بتخصيص مبلغ 10 بليون دولار لتشكيل لجنة تخترع آلة لقراءة العقل يمكنها عند التطبيق أن تنطق كلمة شيوعى عندما لا يكون الشخص مواطنًا مخلصًا.
***
آرثر ميللر
"لو تخلى الجميع عن إيمانهم لما كانت هناك حضارة! لهذا فإن اللجنة تمثل وجه المتزمتين! وإنه لما يدهشنى أنك تستطيع الحديث عن الصدق والعدالة، وأنت تتكلم عن هذه العصابة من كلاب الدعاية الرخيصة!"
فقرة من مسرحية كتبها عام 1966 بعنوان "بعد السقوط ".
***
برتولت بريخت ـ من اهم كتاب المسرح فى القرن العشرين
"إنكم تطبقون ما يمكن أن نسميه بـ "الإعدام البارد" مثلما يطلق على أحد اشكال السلم اسم "الحرب الباردة".. فالمنحرف لا يجرد من حياته، بل فقط من وسائل الحياة. ولا يظهر اسمه فى عمود الوفيات، بل فقط فى القائمة السوداء".
***
بول روبسون ـ ممثل ومغنى شهير
"هل يمكنني القول أن سبب وجودى هنا اليوم أننى ناضلت لسنوات من أجل استقلال شعوب إفريقيا المستعمرة، ولأننى أتحدث فى الخارج ضد المظالم التى تمارس ضد الشعب الزنجى لهذا البلد..
إنه لتعليق حزين ومرير على وضع الحريات المدنية فى أمريكا أن نفس القوى الرجعية التى أنكرت على حق الوصول إلى منصة المحاضرات وقاعة الموسيقى ودار الأوبرا وخشبة المسرح، هم الذين يسوقوننى الآن لأقف أمام لجنة تحقيق.. وبديهي أن أولئك الذين يحاولون إخراسي هنا وفى الخارج لن يمنحونى الحرية للتعبير عن نفسى بصورة كاملة فى جلسة يسيطرون عليها.
الذين يعتبرون الدستور قصاصة من الورق عندما يحتمى به الزنوج.. كيف يمكنهم أن يدعون القلق على الأمن الداخلى لبلادنا بينما يساندون أشد الهجمات وحشية على 15 مليون زنجى من جانب البيض والكو كلوكس كلان..!
إنهم ينتهجون سياسة حافة الحرب الحمقاء غير المسئولة والتى ستؤدى إلى دمار العالم".
***
توم هايدن ـ أحد قادة الحركات المناهضة للحرب الفيتنامية ـ 1968
"إن كنتم تتصورون أن الماثل أمامكم الآن مناضل، فعليكم أن تروا ما سيفعله بكم من هم فى سن السابعة والثامنة خلال السنوات العشر القادمة، لقد علمتوهم ألا يحترموا سلطتكم".
***
جون هوارد لوسون ـ كاتب وعضو فى رابطة كتاب السينما ـ 1947
"لمدة أسبوع أجرت هذه اللجنة محاكمة غير شرعية وغير مهذبة للمواطنين الأمريكيين الذين اختارتهم اللجنة ليلطخوا ويشهر بهم.
ولست هنا لأدافع عن نفسي، أو لأجيب على أكوام الزيف التى انصبت فوقى..
إن الدلائل المزعومة تأتى من سلسلة من الواشين، والعصابيين، والمهرجين الباحثين عن الشهرة، وعملاء الجستابو، والمرشدين المأجورين، وقليل من الجهلة والخائفين من فنانى هوليوود. ولن أناقش هذه الشهادات المتحيزة. فلندع هؤلاء الناس يحيون مع ضميرهم، عالمين أنهم قد انتهكوا أقدس مبادئ بلادهم".
إن اللجنة تحاول تحطيمى شخصيًا ومهنيًا، وحرمانى من كسب عيشى، ومما هو أعز لدى بكثير وهو شرفى كأمريكى لا تكسب دلالتها سوى أنها تفتح الطريق إلى تدمير مماثل لأي مواطن تختار اللجنة محوه.
إن القوى التى تحاول إدخال الفاشية إلى هذا البلد، وهم يعلمون أن الطريقة الوحيدة لخداع الشعب الأمريكى ليتخلى عن حقوقه وحرياته تتلخص فى تلفيق خطر وهمي، لإخافة الناس حتى يقبلوا قوانين قمعية من المفترض أن تحميهم".
***
ستيفن تشركوس ـ عضو حزب العمل التقدمى ـ من مناهضى الحرب الفيتنامية ـ 1966
"إن هذه محاكمة هزلية.. إنكم ممثلين لحكومة ترتكب جرائم حرب، حكومة تشن حرب إبادة فى فيتنام.. إنكم تمثلون حكومة الولايات المتحدة ولا تمثلون الشعب.. إن الشعب الأمريكى سيهب ويحطم هذه اللجنة عندما يعرف حقيقتها.. إن المعارضة فى أمريكا لحرب الإبادة فى فيتنام تتزايد كل يوم.. إنكم تشنون حملة لتقسيم وإخراس المناضلين والثوريين.. بسبب حربكم العدوانية فى فيتنام تتدهور أجور العمال وترتفع أثمان الغذاء والإيجارات والملابس والبيوت وترتفع الضرائب..
إن جامعاتكم أصبحت سوقًا لبيع وشراء العقول.. إن أمريكا لا تذهب إلى فيتنام لتحرير شعبها كما تزعم، بل من أجل جعلها قاعدة سياسية وعسكرية للسيطرة على جنوب شرق آسيا.. إن حكومتكم لا تعبأ بأعداد القتلى، بل سوف تقتل أكبر عدد ممكن من أجل مصالحها.. إن عصابة "جونسون" هى الخائنة والمخربة للشعب الأمريكي.. إنهم أعداء شعوب العالم.. إنهم أكثر قوة ممقوتة فى تاريخ السياسة الدولية ولابد من هزيمتهم..
سوف يتم إيقافهم وسوف يهب الشعب الأمريكي ويحرر نفسه وسوف يوقف الأعمال الإجرامية لحكومة الولايات المتحدة فى كل أنحاء العالم.. إن الشعب الزنجي والشعب الفيتنامي لهم نفس العدو؛ وهو حكام أمريكا..
يموت الشباب الأمريكى والفيتنامي من أجل أرباحكم الشخصية.. إن الحكومة الأمريكية اليوم تنتهج نهج هتلر.. إن هناك أمريكتين إحداهما تمثل الحكام والثانية تمثل الشعب.. إننا نتوحد مع أمريكا الحقيقية؛ أمريكا الشعب".
***
ليليان هيلمان ـ كاتبة مسرحية ـ 1952
"إننى لا أرحب بأن أجلب المتاعب لأناس كانوا فى ارتباطى السابق بهم، أبرياء تمامًا من أي حديث أو فعل خائن أو تخريبى..
لا أستطيع أن أضر أناسا أبرياء عرفتهم لسنين طويلة لكى أنقذ نفسي، فإن هذا يعد بالنسبة لي غير إنساني وغير مهذب وغير مشرف ولا أستطيع ولن أستطيع أن أقص ضميرى ليناسب موضة هذا العام..
إننى مستعدة لإسقاط حقى فى عدم تجريم نفسى ولأن أخبركم بكل شئ تريدون معرفته عن آرائى أو أفعالى أذا وافقت لجنتكم على الامتناع عن طلب تسمية أناس آخرين".
***
دافيد بلات ـ 1951
"أنتم الذين تعدمون الزنوج دون محاكمة؟ وتلقون القنابل الذرية؟ وتذكون معاداة السامية؟ وتحرقون الكتب؟ وتحرمون فنانين عظام من جوازات سفرها؟ وتقصفون كل ما يتحرك؟ وتحرقون أكواخ الكوريين لتتدفأوا بها دون أن تنظروا أولا.. هل النساء والأطفال داخلها؟
***
"انتهت هذه الجولة مع صفحة النضال ضد مكارثية النظام الأمريكي، والتى استطاع فيها المثقفون بشجاعتهم وتضامنهم أن يكسروا شوكة استبداد النظام ويكشفوه أمام الجميع، ويرغموه على التراجع، ولو إلى حين. بل نجحوا فيما هو أخطر من ذلك، حين أسسوا، فى أوج اشتعال العدوان الأمريكى على فيتنام، حركة أمريكية لمناهضة الحرب، مما ساهم فى إنهائها وانسحاب القوات الأمريكية.
إنها واحدة من المعارك الإنسانية الكثيرة والمتعددة، التى تلهم شعوب العالم، الثقة فى قدرتها على النضال والانتصار على كل أنواع القهر من احتلال واستبداد واستغلال و تبعية، حتى لو جاء من أعتى النظم عدوانا ووحشية".
للتواصل مع الكاتب عبر البريد الإلكتروني.. اضغط هنا