
عن الفقر بوصفه خصما للحياة
محمد طلبة رضوان
عن الفقر بوصفه خصما للحياة
عطف عليه أحدهم لما رآه ينام في الشارع، فتح له المسجد لينام فيه، بعد يومين، وجده يجلب عاهرات إلى المسجد، هكذا ببساطة، لماذا؟ لأنه فقير، الفقراء أكثر خشية لله وطمعًا في نعيم لديه، هذا عن الفقر العادي، أما حين يجتمع أقسى درجات الفقر والبؤس في قلب رجل لديه معرفة بالحياة وحق الإنسان فيها، قد يؤدي إلى يأس ومرارة تفقده الإحساس بكل قيمة.
ليس لديه من المال ما يكفي لفتح محل جزارة، ولا يعلم أحد بمال من يتاجر، إلا أن لديه "نصبة" تحت الكوبري الدائري في منطقة نصف زراعية، كفر طهرمس، الجيزة، يقف ومن حوله الخراف، يوميا يذبح، ويعلق، ويبيع للناس بالكيلو، يذبح الخراف أمام بعضهم البعض، شهدت ذبح أحدهم صدفة، كانت بقية الخراف تشاهد الذبح بأعين ملؤها الخوف، والرعب، لا ليس هذا، لعله الأسى، هو الأسى، رأيت الدموع في عين أحدهم، رأيتها بعيني، كانوا جميعا يراقبون أحدهم وهو يذبح ويسلخ ويعلق، فيتوقع مصيره، اقتربت منه محاولا أن أكون هادئا كي لا ينفر مني، قلت: يا عم حرام، ذبح الخراف أمام بعضهم البعض حرام، لا يجوز شرعا، سيحاسبك الله، نظر إلي مستغربا من هذا الذي يتحدث عن حق الخراف، قبل أن ينفجر في وجهي: حرام حرام .. غور !!
من السهل أن تسند رأسك إلى أريكة، وتتقعر في جلستك، لتتهم عاهرة بأنها عاهرة، لا دين لها، وسخة، منحطة، لا شيء يبرر بيعها لجسدها، كل هذا سهل، وبسيط، وعادي، حدث، ويحدث، وللأسف، سيحدث، لكن من المستحيل أن تعيش يومًا من أيامها قبل أن تبيع جسدها ثمنا لبعض بقاء.
من السهل أن تنتقد هؤلاء الذين يلقون بالقمامة في الشوارع لأنهم ناس زبالة، وتمارس التنظير اللوذعي حول النظافة التي ستعم أرجاء الكون لو سكن الأوروبيون مكان المصريين، والعشوائية التي ستختفي من اسطبل عنتر، ومنشية ناصر، وحارة البطارية، لو سكنها مواطنون متحضرون، لكن من المستحيل أن تبدو نظيفا ومتحضرا مثل نماذجك الخيالية لو عشت يوما واحدا من أيام هؤلاء الناس.
نعم، وافق أهلنا على القتل، تفويضا، وتهليلا، وسخرية، وأحيانا تجاهلا، بعضهم ليس فقيرا، لكن من قال إن الفقر فقر المال وحده، لقد جرى تجريف الحياة المصرية على أيدي العساكر 60 عامًا حتى عشش الفقر في خرائب المصريين، في كل ركن من أركان الحياة المصرية فقر مدقع، فقر الروح، فقر الخيال، فقر الفكر، فقر الوعي، فقر يجعلنا نعمَى عن الفقر ولا نشعر به، فقراء، ولكن لا يشعرون !!
لماذا يحن بعضنا إلى أيام الملكية؟ ما قبل يوليو الأسود 1952، فيما يغضب آخرون ليس تشيعًا أو دعما لتجربة الحكم العسكري ولكن إنكارا لأي أفضلية متوهمة لأيام الملكية والإقطاع، وسياط الباشوات على ظهور الفلاحين، والفقر والحرمان والحفاء، والفيضانات، والأوبئة، عن أيام العساكر، الحق أن شيئا ما واحد مختلف، يجعل من كل أيام مصر البائسة، أفضل من أيام العسكر، شيء يتعلق بالفقر، ليس النقص، العوز، بل الفقر بوصفه صبغة الحياة، الفقر الذي يجعل من شخص شديد الفقر في التعليم، والمعرفة، والوعي، مثل عبد الفتاح السيسي أن يكون رئيسًا لأهم بلد في الشرق الأوسط، وواحد من أخطر البلاد في العالم بحكم موقعه وثرواته، الفقر الذي يجعل من ساذج مثل مبارك، رئيسا لنفس البلد لمدة ثلاثين عاما، الفقر الذي يجعل من توفيق عكاشة إعلامي يركب الشاشة ويتابعه الملايين، ويؤثر فيهم ويصدقونه، وهو لا يصلح إلا كمادة لفيلم كوميدي مقاولات، الفقر الذي يجعل من أحمد موسى، وإبراهيم عيسى، ووائل الإبراشي، إعلاميين، ويجعل من كل من له صديق، أو جار من الإخوان متخصصا في شئون الحركات الإسلامية، ويجعل من هذه الكائنات العجيبة على مواقع التواصل يساريين، ويجعل من برهامي ونادر بكار إسلاميين، ويجعل من أحمد كريمة، والشيخ ميزو، وأسامة الأزهري علماء، ويجعل من خالد منتصر وإسلام بحيري تنويريين .. الفقر .. الورم .. الخصم.
للتواصل مع الكاتب عبر موقع فيس بوك: