
تلاتة بالله العظيم احنا بنحارب أعداء الوطن !!
محمد طلبة رضوان
تلاتة بالله العظيم احنا بنحارب أعداء الوطن !!
فيلم البريء، وحيد حامد، وعاطف الطيب، وطبعا أحمد ذكي، أتصور أن دلالة هذا النوع من الأفلام في تاريخنا لا تختلف كثيرًا عن التسريبات.
فرصة حقيقية كي تعرف، قبل أن يقفلوا المحبس من جديد، بلاد لا يعرف أحد من أهلها عنها شيئًا، إلا أن يسجن أو يقتل من أصحاب المناصب الرفيعة، ودون ذلك، هي الصدفة، أو تعارض المصالح، أو الغربة والقراءة والمتابعة عن بعد، فرص المصريين قليلة في أن يعرفوا أي شيء، سواء عن واقعهم أو عن تاريخهم، حتى الوثائق التي تكشف عنها الحكومات بعد مرور فترة زمنية على أحداثها لأنها لم تعد سرية بحال، ممنوعة في مصر، ولا يستطيع باحث مصري إن أراد أن يعرف عن حقيقة ما حدث في حرب أكتوبر مثلًا، وذلك بعد فوات أكثر من 40 سنة عليها، إلا أن يسلم نفسه إلى الرواية الغربية، ذلك هو المتاح، أن تقتنع أننا هزمنا، ليتهمك بالخيانة أول من حجبوا عنك تفاصيل النصر !!!
البريء فيلم ينتمي إلى مرحلة كان السادات يبني فيها شرعيته على أنقاض ناصر، ويفكك الأسطورة الناصرية، أو هكذا أراد، بالكشف عن مهازل الحياة المصرية في السجون والمعتقلات في فترة حكم حبيب الملايين، تلك التي أفضت في النهاية إلى الهزيمة، في شهر الهزائم والنكسات "يونيو 67".
أتصور أننا لم نقرأ البريء بعدما شاهدناه عشرات المرات، واستدعيناه مئات المرات، لكن في سياق الإشارة إلى الجندي الريفي الساذج الذي يخدعه رؤسائه ويغرونه بانتهاك المثقفين، والنشطاء بوصفهم "أعداء الوطن"، إلا أن وقائع الحال التي لا تتغير في مصر، حيث يمارس الزمن السياسي" الجري في المكان"، تكشف عن مشاهد أخرى من "البريء" تتكرر تباعا، بتفاصيلها، السيناريو، الحوار، حتى حركة الكاميرا، ودرجة الإضاءة !!!
"تلاتة بالله العظيم أنا باحارب الأعداء" !!!
يعود أحمد سبع الليل (أحمد ذكي) من الجيش، 10 أيام أجازة، مكافأة له على قتله لواحد من أعداء الوطن، الروائي رشاد عويس (صلاح قابيل)، الذي حاول الهرب فخنقه الجندي الأمين على بلاده وحمايتها من الأشرار، يقف بين أقرانه معتدًا فخورًا بما فعل بعد أن كانت سذاجته مدار استهزائهم وتسليهم، يلاحظون ما طرأ عليه من تغير، يطلبون له "كازوزة" ويسألونه عن أحواله في الجيش، ماذا يفعل؟ يخبرهم أنه يحارب الأعداء، يسخرون منه، ويلتفت أحدهم إلى "عم شاكر" البقال (أحمد أبو عبية) ليسأله: الراديو بتاعك قال إن فيه حرب؟ فيرد الأخير: لا حرب ولا يحزنون !!!
يحتاج أحمد سبع الليل أن يحلف بالله العظيم ثلاثا أننا في حالة حرب، وأنهم ماكثون في القرية لا يعلمون عن حال البلد شيئًا، فيما هو رابض هناك على الحدود يرى أعداء الوطن ويرونه، وذلك قبل أن يطمئنهم على أنه شرفهم ورفع رأسهم في ميدان المعركة، يستقبلون ثقته العمياء بما يقول بأفواه فاغرة ، ويصدقونه !!
لم يكذب أحمد سبع الليل، لم يقتل عامدًا حين امتدت يده المؤمنة ببلاده لخنق المثقف الذي أراد تنويره، ورفض أن يؤذيه، وفضل أن يموت على يديه من أن يقتله، وهو قادر، فيتورط في دمه وهو يعلم أنه ساذج لا يفهم شيئًا، فقط أخبره أنه حمار لا يفهم شيئا، ثم أسلم الروح في صمت، كان سبع الليل صادقا، وكان رشاد عويس صادقا، كلاهما كان يحارب في خندق واحد، دون أن يدري، تماما كأهل القرية الذين لم يخبرهم الراديو أن ثمة حرب !!
العقيد توفيق شركس (محمود عبد العزيز) هو الآخر شخصية لم تحظ بقراءتنا، لا أتحدث عن قراءة النقاد بالمناسبة، أتحدث عن الأهم: الناس، ضابط الجيش، المكلف بالسجن العسكري الذي يرسلون إليه خيرة شباب البلد ومثقفيه، هذه التركيبة المتناقضة، الأب الحنون على أولاده، الذي يركب الأطفال على ظهره، صاحب الابتسامة المتفائلة، والوجه الطيب، هو نفسه الضابط الذي ينفذ أوامر رؤسائه بالقتل دون أن يطرف له جفن، يربط "الدكتور" (جميل راتب) وهو العجوز، صاحب المكانة والقيمة، في حصانه بالحبال، ويسحله في صحراء المعتقل أمام زملائه قبل أن يحمله العساكر ويغطسون رأسه في المياه، فيبكي قهرًا، لا يحتمل "الضابط" أن يرى بكاء أطفاله، أو يسمع عتابهم عليه، يأسى من جراء ذلك، ويتألم، لكنه يضحك بشماتة وتشف أمام سحل أستاذ جامعي معارض، هذه هي الأوامر، لا يبحث "شركس" كثيرا في سؤال الإيمان بالوطن، ربما لا يأتي على باله مدلول اللفظة التي يكررها دائمًا على مسامع جنوده، يكذب على العساكر الجدد، يزور وعيهم بنزلاء معتقله، ليصدقوا، فيطيعوا الأوامر بدورهم، مع التجويد !!
يشاركه في حيوانيته المتدثرة بالأبوة والوطنية، رجاله، أبرزهم الضابط الذي لم يهتم "وحيد حامد" أن يجعل له أسما، فالضابط في هذه الحالة هو الضابط، لا اسم له، ولا صفة، ولا كيان، مجرد منفذ، يرى العقيد شركس وهو يكذب على لجنة حقوق الإنسان ويخبرهم أنه يحسن معاملة سجناءه، وأنه لا يدير سجنًا بالمعنى التقليدي بل مكان هاديء منعزل للقراءة والتأمل، تقترب الكاميرا من ابتسامته الساخرة المحبوسة، لتكشف عن نفسية "الضابط" الذي يدرك أن رؤساءه كلاب، لكنه يشاركهم النباح طمعًا في العظام يلقون بها إليه من لحوم الناس، فيأكل !!
مشهد زيارة لجنة حقوق الإنسان، هو الآخر، مشهد دال، ما زال يتكرر كل يوم، يد العدالة العسكرية الناجزة، التي لا تغلها القوانين، يموت رشاد عويس، روائي، مشهور، له اسم، يصير موته لغط حقوقي أجنبي، ولا يخشى العسكري سوى من الخواجة، ولي نعمته، يريدون أن يعرفوا سبب الوفاة، ويشهدوا مكان الاعتقال، تصدر الأوامر بـ "تستيف" الأوراق، يستقبلها "شركس" في رعب، يأمر بها رجاله المرعوبين بدورهم، يقودهم الرعب إلى سجناءهم ليهددوهم بالويل لو نطق أحدهم بكلمة أمام "الضيوف"، الرعب يقود الجميع إلى حيث الأوامر، والجميع ضباطًا ومساجين، جنود مجندة في قبضة الرعب وتحت إمرته.
المشهد في غرفة "شركس" قبل زيارة الوفد الحقوقي بدقائق، هو، وضباطه، يستنكر أن يعيش في هذا الجحيم من اجل "ابن الكلب" رشاد عويس، لماذا؟ وأي قيمة يحملها، ماذا كتب رشاد عويس ليجعله مهما؟، يسأل ولا يرد عليه أحد، فقط يشاركونه القلق، ليس فيهم من يقرأ، أو يعرف ماذا كتب رشاد عويس، لكنهم يعرفون الأوامر، يذهب "شركس" إلى التواليت، في إشارة إلى عدم قدرته على السيطرة، يرن التليفون فيخرج بسوستة بنطلون نصف مفتوحة، لم يدرك صاحبها بولته، يرد مرعوبًا: تمام يا فندم، الطرف الآخر، عسكري آخر، مرعوب بدوره: هل وصلوا؟!
تأتي اللجنة في طائرة خاصة إلى مكان الاعتقال، تستقبلهم أنغام فريد الأطرش في إذاعة السجن الداخلية، "طب انسى/ وأنا هانسى/ أنا مش هارجع لك تاني)، المساجين يقرأون في مكتبة متواضعة، المطبخ تنبعث من روائح الأرز المفلفل، الخبز الساخن، يتلقون شكوى وحيدة: الماء الذي يأتي ساخنًا، أما رشاد عويس فقد مات لأنه كان دائم الهرب، وكان العساكر دائمي الحفاظ عليه وعلى حياته، إلا أن جنديًا جديدًا لا يعرف القواعد أطلق النار من باب التهويش فشاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يموت، والأعمار بيد الله، ملامح "شركس" وطعم الحروف على لسانه وهو ينطق باسم الله تخبرك إلى أي مدى، هو طيب ومؤمن، ألا يذكرك "شركس" بأنواع أخرى من الحيوانات؟!!
يظل "أحمد سبع الليل" على تصديقه، إلى أن يُسجن حسين أفندي ابن الحاج وهدان، (ممدوح عبد العليم)، صاحبه، ورفيق عمره، وبلدياته المثقف الجامعي الذي أوصاه بجيش بلاده خيرًا، فكيف يكون من أعداء هذا الجيش؟ يحاول سبع الليل أن ينقل وجهة نظره لرؤسائه إلا أنهم لا يعرفون النظر، أو وجهته، إنما الأوامر، والأوامر بالقتل، إذن: اقتل يا سبع الليل، يرفض، يسجنونه مع "بلدياته" ويطلقون عليهم الحيات، يصرخ حسين أفندي: يا ناس، يا ناس .. الناس يا صديقي آخر من يغيث مظلومًا، وأول من يبكي عليه، يصرخ، ولا يجيبه أحد، يصرخ حتى ينفد الصراخ، يموت، يموت حسين ابن الحاج وهدان، يموت لأنه اكتفى بالصراخ، أما سبع الليل فـلا، ذلك لأنه طارد الثعابين، وقطع رؤوسها على أسنة حديد الزنزانة، عاش !!
تتعمد الرقابة أن تحذف المشهد الأخير، أغلب جيلنا شاهد الفيلم حتى صرخة سبع الليل في وجه الظالمين، لم نشهده بعد صراخه اليائس وهو يحمل السلاح مطلقًا النار على رؤسائه، وزملائه، انتقاما لدماء المظلومين الذي شارك معهم من قبل في سفكها وهو لا يدري، حرمونا من مشاهدة الفيلم لآخره، لكن يبدو أن واقعنا لم يشأ أن يحرمنا، لا منهم، ولا من طلقات سبع الليل، اللهم هون ..
للتواصل مع الكاتب عبر فيس بوك..
https://www.facebook.com/mohamed.t.radwan