
مغامرة مواجهة المرض وحيدًا
آلاء الكسباني
مغامرة مواجهة المرض وحيدًا
أتقلب فى سريرى وحيدة، أشعر بالتعب الشديد يأكل جسدى حياً، كل جزء فى جسدى يؤلمنى، حرارتى مرتفعة بشدة، لا أستطيع حتى أن أذهب للحمام بدون التأوه، أبحث عن علبة المناديل المختفية بين ثنايا الأغطية، أتحامل على جسدى الهزيل وأذهب تجاه الطاولة لأتناول علبة دوائى، أتجرعه ببطء محاولةً آلا أجرح حلقى الملتهب، ثم أعود للسرير مجدداً وحدى، محاولةً تناسى الألم الذى يعتصرنى.
غريب جداً الجسد البشرى، يمتلأ بالشعور بالقوة والعنفوان وعدم الاحتياج فى الوقت الذى يكون فيه صاحبه سليماً، وإذا ما اعتل، تصيبك مشاعر مضطربة مختلطة لا تعرف حقاً كيف تفسرها، بعضها يحمل تساؤلات لا تعرف كيف تجيبها، منها على سبيل المثال، ماذا سيحدث إن بقيت وحيداً للأبد؟!
قد يسألنى بعضكم، وما علاقة المرض بالوحدة؟! العلاقة ببساطة قائمة على الشعور بالضعف الإنسانى، لإن المرض أحد أشكال الضعف المؤلمة جداً، والألم الحقيقى فيها لا يكمُن فى مواجهة اعتلال الجسد ومرارة الدواء وانتظار الشفاء والاضطرار لمواجهة حقيقة إنه مهما بلغت قوتنا سضعف يوماً ما، وإنما فى فكرة الاحتياج، فبدلاً من أن تقوم من سريرك لأنك ترغب فى تناول علبة الدواء، كان من الأسهل جداً أن يجلبها لك أحدهم مع شربة ماء، أو أن يساعدك فى الذهاب لقضاء حاجتك دون أن تشعر منه بالخجل أو التهرب، هذا المدى من القرب، هو ما تشعر بألم فقده، وغياب هذا المدى من الصدق، هو ما يجعلك تشعر بالوحدة، وبالضعف الحقيقى، ليبدأ عقلك فى طرح الأسئلة، من نوعية: ماذا سيحدث فى المستقبل القريب إذا ظللت وحدك بدون أى مرافق لرحلتك الطويلة؟ هل ستظل قادراً فى نهاية كل اليوم على التحامُل للذهاب لجلب علبة الدواء؟!
يضحكون علينا كثيراً بلعبة النضج هذه، يجعلوننا نسعى بشدة للاستقلال، ينمون فى داخلنا الشعور بالرغبة فى مجابهة الحياة، فى العمل والانجاز وتحقيق الذات، فتجذبنا عجلة الرتابة، لنستيقظ كل صباح فنذهب للعمل ونعود منه للسرير مجدداً محاولين تناسى تعب الأيام المتلاحق، دون أن نتلفت لشركاء الرحلة المتعبة الواجب اختيارهم، لينتهى بنا الحال وحيدين جداً، لا ندرك قدر الموقف إلا لحظة الوهن، لحظة مواجهة الذات، لحظة الحاجة إلى الاتكاء على كتف أحدهم، فلا نجد من الاتكاء على أنفسنا مفر، لنصبح نحن فقط أبطال قصصنا، وقد يكون الأوان قد فات جداً للبحث عن غيرنا ليكونوا شركاء البطولة فى هذه القصص، فلا نجد بد من الوحدة الشرسة اللئيمة التى تأكلنا، لتصبح مواجهة المرض فى الوحدة مغامرة خطيرة.
ننكر جميعاً هذه الأمور ونحن قادرين على الحركة والعمل والانخراط فى أنشطة الحياة اليومية المزعجة جداً، ننكر الحاجة لإن نتحصن من لحظات الضعف بوجود مقربين يهونون الأيام والليالى القاسية، ننكر عدم الرغبة فى البقاء وحيدين، محاولين اخفاء أى دليل دامغ على إننا لن نستطيع الصمود كل هذا الوقت بهذه الطريقة، رغم ما يفرضه علينا النضج من ضرورة عدم اخفاء هذه الأدلة ومواجهة الواقع، بدل من إخفائه كالتراب تحت سجادة صغيرة فى ركن المشهد، لكننا فى النهاية نضر للوقوف أمام مرآة أنفسنا، لنرى إننا قد مشينا عمراً كبيراً دون حقيقة واحدة تُذكَر نستند عليها!
قد يظن البعض إن هذا دفاعاً منى لحث الناس على الزواج والإنجاب وتكوين العائلة وتحصين الروح بالأصدقاء، لكن هذا ليس هو مربط الفرس، وإنما مربط الفرس الحقيقى هو إننا قد ظننا الاستقلالية وردية جداً، تجعلك سيد قرارك، قادراً على القيام بما تريد وقتما تريد، لكنهم لم يبذلون جهداً ليرونك وجهها الحقيقى، لا تكشر عن أنيابها الشرسة إلا حينما تضطر إلى أن تواجه ضعفك الإنسانى، وهو جزء لا يتجزأ منك مهما حاولت الهرب منه، ستضطر إلى مواجهته فى توديع حلم من أحلام شبابك لإن الحياة تفرض عليك أن تنضج، ستضطر إلى مواجهته فى الاتكاء على قطع الأثاث الصامتة الهامدة بلا روح للذهاب للحمام وأنت مريض، أو فى شعورك ببرود سيراميك أرضية المطبخ حين تضطر للوقوف لتناول أى طعام تسند به جسدك الهزيل، أو حين تضطر للاستيقاظ كل صباح بنفسية غير راضية، حاملة ضغينة تجاه العالم، غضب، غضب من اضطرارك للتسليم بفرضية الواقع، دون أن يكون حولك أحد تشاركه هذا الغضب، أو على الأقل تبث له حزنك، لإن النضج علمك بضرورة الوقوف كآخر جندى فى المعركة، بحزن شديد تتطلع على البقايا والحطام المحيط بك، دون أن يكون هناك حل إلا لأن تجرجر سلاحك البائس، وملابسك المتسخة بالدماء، نحو الضفة الأخرى، لربما لا يوجد قذائف هناك.
لربما أنتم أكثر حظاً منى، لربما هذه الكلمات محض هذيان محمومة تبلغ حرارتها الـ ٣٩ ونصف وتحاول تجرع البروفين والكونجستال، لربما ستظل مواجهة الضعف بون سند، وحيدين كلياً، هى ضريبة النضج فى هذه الحياة، ولربما ستظل هذه الضريبة المؤسفة فى نهاية الأمر مغامرة، مغامرة محفوفة بمخاطر اكتشاف أغوار النفس، وسيتوجب علينا ملاقاتها بين حين وآخر!