رئيس التحرير: عادل صبري 01:26 مساءً | الأحد 22 يونيو 2025 م | 25 ذو الحجة 1446 هـ | الـقـاهـره °

عندما غنت لي جارة القمر

عندما غنت لي جارة القمر
24 نوفمبر 2017

عندما غنت لي جارة القمر

آلاء الكسباني

عندما غنت لي جارة القمر

 

كانت أول معرفتى بها من خلال رنة هاتف خالى حين كان لايزال فى منتصف عشريناته بينما أنا فى الصف الثالث الإعدادى، حيث كان الهاتف المحمول ذا النغمات المجسمة التى تستطيع أن تُخرِج أصوات لمغنيين اختراع جذرى قلب الدنيا رأساً على عقب!

 

سمعت صوت ناعم رقيق ينبعث من نهاية غرفته الممتلئة بفوضى شاب فى منتصف العشرينات فى بيت جدتى القديم، تتبعت الصوت إلى أن وصلت للنور الصادر من هاتفه على الكومود الخشبى عتيق الطراز، وأرهفت السمع، لأجدها تغنى "شايف البحر شو كبير… كبر البحر بحبك"، ليغلق المتصل على الخط بعد أن لم يرد أحد، فيخفق قلبى بشدة لا أفهم لها معنى، وأجرى تجاه خالى فى حالة من الذهول بالصوت السحرى، لا لأعطيه هاتفه الذى تعِب من استقباله لاتصالات لم يُرَد عليها، وإنما لأسأله، ما هذه!

 

كانت هذه اللحظة هى تذكرة دخولى لعالم جارة القمر الساحر، أنا المراهقة المهووسة بأصوات سامو زين وحسام حبيب، كانت هذه اللحظة هى بمثابة قطن الأذن الذى اخترق السمع ونظفه وجعله أكثر وضوحاً، وانتباهاً، ويقظة!

 

أبدى خالى اهتماماً برغبتى فى سماع فيروز، ففتح لى ملف كبير على حاسوبه الذى امتلاك واحد مثله فى وقتها طفرة، كان أسمه "جارة القمر"، وحين سألته عن سبب تسميتها بهذا، فتح لى مقطع صوتى، ينبعث منه الصوت السحرى مغنياً "نحن والقمر جيران"، ليدق قلبى من جديد، وأشعر إنها تغنى لى، لى أنا، كأن صوتها يعزلنى عن العالم، ينتشلنى من أفكارى المتلاحقة واضطراباتى التى لم أكن أفهم وقتها إنها اضطرابات من الأساس.

 

بدأت اتتبع أغانى فيروز بكل وسيلة ممكنة، أبحث عن أغانيها لدى الجميع، ابحث عنها فى كل مكان، حتى تكون لدى ملف كبير على حاسوبى باسمها، أفتحه كل يوم لأسمع منه ما تيسر، أكتشف مع الوقت كل أغنية جديدة تقع أذنى عليها، لتنحفر لكل أغنية من أغانيها أخدوداً خاصاً فى قلبى، يُشعرنى بإنها تمسنى بشكل شخصى، فهى تُغنى لى أنا، تخبرنى بأوجاعها حين سألوها الناس عنه لكن عزّ عليها أن تخبرهم قصتها معه فى أغنية لإنها ستغنى وهما لأول مرة ليسا سوياً، وتقول لى إن قلبها يتوق لأن يخلره بإنها اشتاقت له لكن خائفة من أن تكون العلة إنه لم يشتاق إليها بالمرة، وتحدثنى عن قصة حبها الخريفية التى تبدأ فى فصول السنة التى يسعى الناس جميعاً للاختباء فى منازلهم وقتها، أخبرتنى عن بيروت، جعلتنى أحبها بدون أن أراها، ألهمت حماستى وأثارت فىّ شعور الانتماء أكثر من مئات الخطابات الحماسية حين غنت للقدس، وجعلتنى أتيقن إن القدرة على السفر فى عوالم الخيال ممكنة جداً، فقط إن أغلقت عينيك عن العالم وفتحت لها هى فقط روحك !

 

كانت فيروز أول صوت ينقلنى من المراهقة لبدايات الشباب، عبرت بها مراحل حياتى المختلفة، المضطرب منها والهادئ وبدايات النضج ولحظات الجنون، قبل حتى أن تصبح موضة، أو صوت يتم ذكره للتعبير عن العمق بجانب فنجان القهوة وكتاب لأحمد مراد، فأنا لم استشف قط العمق فى أغانى فيروز، ولم أشعر أبداً إنه من الجائز أن يُسمَع صوت فيروز بينما ننشغل عنه بشىء آخر مثل مطالعة كتاب، ففيروز ليست مجرد مطربة، بهى حالة من الألفة والوئام والونس، الونس الذى لا تحسه إلا مع شخص تتحسس القرب فى روحه من روحك، أما العمق فلم يكن يوماً وسيلة لفيروز للتعبير عن صفو روحها فى موسيقاها وصوتها، فمطربة تغنى لمدة سبع دقائق كاملة "ليلي ليلي يا ليلي" وتجعلك تغنى معها وتستمتع وتشعر بالفرحة المنبعثة من رنات صوتها فى الأرجاء بل وتدندن حتى أهاتها فى الأغنية هى بالتأكيد لا تسعى لإثبات العمق، هى فقط تغنى للغناء، للنشوى، وللارتقاء فى سماوات الصفاء الذهنى!

 

تبلغ اليوم فيروز من العمر ٨٢ عاماً، أنتجت فيهم قرابة الألف أغنية، أو أكثر، غنت للطفولة، لخيالات المراهقة، للشوق، للحب، للوطن، للغزل، للشجن، للفرحة، للحنين، للاغتراب، للموسيقى، للوداع، غنت نهاد رزق وديع حداد للمشاعر الانسانية التى لم نستطع التعبير عنها أو صياغتها فى كلام عادى، وحولت الكلام العادى الذى كُتِب لها لتغنيه إلى تعاويذ سحرية قديمة، تخلق لمن يسمعها جناحين، يحلق بهم فى سماء نفسه، ويكتشفها لأبعد حد، ليتعرف على أدق ثغراته، وأبسط تفاصيله التى كانت غائبة عنه لمدة لا بأس بها.

 

تساعدنا فيروز على اكتشاف الأشياء المحسوسة من جديد، وتعلمنا التماس المشاعر الملتبسة بوضوح أكبر، تأخذ بيدنا لترينا حقيقة أحاسيسنا وكُنهها، تساعدنا على محاربة الاغتراب والتوحد فى العالم، ففيروز دائماً بجانبك، يربت صوتها الحنون على كتفك دائماً، مهما كنت وحيداً، ومهما مرت السنون، يظل صوتها محتفظ بحنانه وتأثيره وقدرته على تفسير مشاعرك المتخبطة لك، تظل قادرة على أن تلمسك، أن تريك الحب والحزن والفراق والأوجاع والحنين بأشكال لم تكن لتراها، تظل قادرة على أن تصل بيك إلى السلام النفسى المنشود، لكن لمن يقدر على تذوق حلاوة صوتها وصدقه حقاً!

  • تعليقات فيسبوك
  • اعلان

    أحدث المقالات

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    محمد إبراهيم

    تضامنا مع مصر العربية.. الصحافة ليست جريمة

    السيئ الرئيس!

    سليمان الحكيم

    السيئ الرئيس!

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    علاء عريبى

    يسقط المواطن ويحيا القولون الغليظ!

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    تامر أبو عرب

    عزيزي عادل صبري.. والاس هارتلي يُقرؤك السلام

    ما جريمة عادل صبري؟

    يحيى حسين عبد الهادي

    ما جريمة عادل صبري؟

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    أميمة أحمد

    عادل صبري.. المثقف الوطني وجه مصر

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    محمد إبراهيم

    نظرة على الانتخابات بعد انتهائها

    عادل صبري حفيد النديم

    سليمان الحكيم

    عادل صبري حفيد النديم

    عادل صبري وترخيص الحي!

    علاء عريبى

    عادل صبري وترخيص الحي!

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية

    السيد موسى

    عادل صبري رمز الصحافة المهنية