
كربلائيات ثورة
آلاء الكسباني
كربلائيات ثورة
الخامس والعشرين من يناير، عيد الشرطة، أقصد عيد الثورة، الثورة التى مر عليها ما يزيد على السبع أعوام، أو ما يقرب منهم!
اعذرونى فحاجز الوقت بالنسبة لى مشوش جداً، ليس لإنى أعانى مرض الزهايمر، أو لأننى أنسى كثيراً بطبيعة الحال، بل لإن تعاقب أحداث جسام فى فترة زمنية قصيرة نسبياً بالنسبة لأمثالى من دارسى تاريخ السياسة فى الأمم يُعد مرهقاً جداً فى محاولة تذكره، خصوصاً لو كانت هذه الأحداث تمس القلوب، لا العقول فقط، لذلك تتداخل الأحداث بالنسبة لى، وأشعر إنها قد حدثت بالأمس فقط، وأخاف، أخاف بشدة أن أحكيها، الآن أو مستقبلاً، من عبء المسئولية الواقعة على عاتق من اختار أن يحكى، من وجوب ذكر كل اسم، كل حدث، وكل تاريخ بأمانة غير المتحيز، وبذاكرة فولاذية من حديد.
ولذلك أنا لست هنا لأحكى، أو لأبكى على الأطلال، بل أكتب فقط لإننى شعرت بالخيبة، خيبة أمل كنت قد قررت تركها خلفى كلياً وعدم الالتفات ورائى للشعور بها على الإطلاق، مهما حدث، ذلك لإننى اخترت أن أقضى على الأمل نفسه، حتى لا تلحقنى أذيال خيبته أينما ذهبت بعد أن يتم تدميره كلياً، فالأمل يا سادة شعور مسموم جداً، يجعلك تصر على المحاولة مهما باءت محاولاتك بالفشل، يدفعك إلى الرغبة، إلى العطاء، مهما كان ليس ثمة مردود لما تبذله، وتظل هكذا، تنزف طاقة وجهد ورغبة وعطاء، ولا تجنى شىء، حتى يواتيك السؤال الوجودى الذى أصبح يصاحب جيلى، لماذا أظل أسعى لتحقيق شىء بدون رؤية واضحة أو أمل حقيقى فى حدوثه، ولتجيب نفسك بمنتهى السخرية "لإن الحب من غير أمل أسمى معانى الحاجات يا يسرية".
هذه أول مرة أكتب عن الثورة من مدة تبدو لروحى بعيدة جداً، لكن لعقلى ليست بكبيرة، أكتب لإن الأمل داعب قلبى الذى اختار أن يدفن حزنه وجده ويعيش فى هزل أبدى، بعد أن رأى لافتات ترشُح خالد على تزغرد فى بقاع الاسكندرية، معلنةً عن "طريق لبكرة" كنت قد ردمته بيداى، وقررت ألا أترك فيه ولو علامة واحدة تدل عليه، ليتوه بين الطرق الآخرى، أو لتتآكل كل العلامات الدالة عليه تماماً كما أكلت العصافير فتات خبز الأخوين هانسل وجريتيل، حتى لا يعرفا العودة للمنزل، ويعيشا فى كنف الساحرة إلى أن يشاء الله خلاصهما.
أكتب وأنا خائفة جداً أن يتجدد الأمل اللعين، مع إنى قد عزفت عن كل ما يؤججه، لكنه من الواضح إنه "مفيش حاجة اسمها تبطيل يا هانيا"، وإن الأمل المُعذِب سيظل يلاحقنا مهما ابتعدنا وتناسينا وعشنا عادى جداً، نضحك فى الصور بابتسامات مشروخة تُنسينا من ذهبوا، ونبتسم حين نمر بطيف خاطرة فى الميدان، نلفظها سريعاً خوفاً من أن يلحظها أحد، أو خوفاً من أن تترقرق فى عيوننا دمعة عمن ذهبوا بلا رجعة، تفضح ابتساماتنا المشروخة، وتذكرنا بإننا لم ننسى أبداً ما أقنعنا أنفسنا بإننا تجاوزناه.
لا أعرف حقاً إذا ما كان ما يحدث سيواتى ثماره المرجوة، لكنى أعرف جيداً إننى لن أشارك فيه، ولربما يرى الكثيرون هذا تخاذلاً وتقاعص لا يليق بروح الثورة المثخنة بالدماء، لكن لا أحد يرى أرواح أمثالى المثخنة بنفس الدماء، لم أعد أتحمل أن أكون ضمن الصفوف، فضلت جداً أن أكون على الكنبة، أشاهد عن بعد، وكلما حاول الأمل إغرائى أذكر الدماء التى خضبت كفوفى، حتى لا أعود، ولا أشارك، ولا أعبء، وأمنى نفسى بإنه لايزال هناك من يقفون فى الصفوف، لم تشيخ أرواحهم من هول ما رأينا، بل تزال تعصف بكل عنفوان بداخلهم، وهو ما لم أقدر أبداً على فهمه، لكنى أحترمه بشدة، لكنى أرغب فى أن يحترموا اختيارات أمثالى أيضاً.
من الطبيعى كداً أن يأتى كل مرشح ببرنامج انتخابى، ومن الطبيعى أن يحمل كل برنامج شعارات ملهبة وحماسية تمس ماضى مؤلم، وبالمناسبة هذا ليس للباحثين عن الديمقراطية والحرية فحسب، فموسولينى جمع الايطاليين حوله بحثه على إحياء مجد روما القديم، ومن الطبيعى جداً أن يكون لكل مرشح مؤمنين به، عاملين على تزكيته، مديرين لحملته الانتخابية، داعين لانتخابه، كل هذا طبيعى وعادى جداً، لربما ما يعطيه عنفوان جديد هو إنه لم يحدث منذ فترة، لكن أن يتم اتهام من لا يرغبون فى الظهور فى المشهد أو التصدى له أو حتى الدخول فيه بالخيانة العظمى المهلبية، وتشجيعهم على النزول للقيام بتوكيلات تحت شعار إن الصوت الواحد قد يسبب فرقاً جوهرياً وعدم نزولهم يعتبر خيانة لدماء الشهداء، فلى هنا وقفة، وقفة تجعلنى أصر على عدم النزول وعدم الانخراط فى المشهد السياسى بأى شكل، لإن ما يحدث يعد بمثابة متاجرة، وتوظيف للمشاعر الانسانية المشوهة التى تعيش فينا ونحيا بها، وهو ما لا يتعلق ولو بواحد بالمائة من روح الصورة الحقيقية التى نجلس كل ٢٥ من شهر يناير نترحم عليها.
أعلم جيداً إن المضى قدماً بمحاولة تعويض الفشل وتدارك الخطأ هو شىء فى منتهى النزاهة، لكن محاولة تلبيس عباءة الفشل لمن لا يقدرون على المضى قدماً هى محاولة رخيصة بكل الأشكال، فالنفوس تختلف، والقدرة على الاستمرار لا تولد بالانسان كالسوفت ويير، نحن لسنا بمبرمجين على أن ننظر للأمام بدون حوف من المتضى، أو بقدرة كاملة على تناسيه، ولم يكن ما عيشناه بسيطاً ليعد دافعاً للأمام، بل هو فى كثير من الحالات مثلى يعد دافعاً للتقوقع ورؤية المشهد كفقاعة، لكن هذا لا يجعلنا أقل وطنية أو أقل مراعاة، نحن لا نحمل كبرلاياءتنا فوق أكتافنا ونسير بها بين البشر لنسقيهم أحزاننا، أو لنجترها دائماً بمناسبة وبدون، لا نجلس فى الركن المظلم صارخين "احنا ضيعنا ضيعنا ضيعنا" كالشاب المكتئب فى فيلم ثقافى، لكننا فقط ننحصر بعيداً، وهو حق من حقوقنا بالمناسبة، لكن صدقونى وقت أن يحدث تغيير حقيقي لن نسعى للقفز بداخل المشهد ونيل الأوسمة، سنفرح تماماً مثلكم عن وطنية صادقة، ونحن لانزال نحمل بداخلنا كربلائيات هذه ثورة.