لا تعكس التصريحات المتشددة التي يطلقها بعض المسؤولين في واشنطن وطهران، حقيقة المفاوضات الجارية بينهما حول عودة الأولى إلى الاتفاق النووي مع الأخيرة، فالطرفان بالفعل اعتمدا صيغة "التنازلات المتزامنة" وصولا إلى التفعيل الكامل للاتفاق، مع فتح مسار جانبي للقضايا الشائكة، مثل برنامج طهران للصواريخ الباليستية وتدخلات إيران الإقليمية، في سوريا واليمن والعراق ولبنان.
وفي مقابل البادرة الإيجابية التي اتخذتها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن صوب إيران، من خلال سحب الطلب الذي قدمته إدارة ترامب إلى مجلس الأمن الدولي لتفعيل العقوبات الدولية على إيران، قامت الأخيرة بخطوة مماثلة من خلال الإبقاء على عمليات التفتيش المفاجئ التي يتيحها الاتفاق النووي، عبر آلية مؤقتة بالاتفاق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وذلك رغم بدء تفعيل قانون إيراني يلزم الحكومة بوقف تلك العمليات.
و أعلن المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافايل غروسي، أمس الأحد، التوصل الى "حل مؤقت" يسمح للوكالة بمواصلة عمليات التفتيش في ايران، رغم بدء طهران تقليص عمل المفتشين الدوليين اعتبارا من غدا الثلاثاء.
وقال غروسي للصحفيين لدى عودته من زيارة الى طهران حيث أجرى محادثات مع المسؤولين هناك "ما اتفقنا عليه هو شيء قابل للحياة (…) من المجدي جسر هذه الفجوة التي نواجهها الآن، هذا ينقذ الوضع الآن". لم يعط غروسي تفاصيل دقيقة عن الأنشطة التي لن يكون بإمكان الوكالة الدولية للطاقة الذرية القيام بها، لكنه أكد عدم خفض عدد المفتشين في إيران.
قانون إيراني
وكان البرلمان الايراني الذي يهيمن عليه المحافظون قد أقر قانونا في ديسمبر الماضي يلزم الحكومة بوقف العمل بالبروتوكول الإضافي وطرد مفتشي الوكالة في حال لم ترفع الولايات المتحدة العقوبات المصرفية والنفطية التي تفرضها على طهران. ومن المقرر أن يدخل القانون حيز التنفيذ غدا الثلاثاء.
وقال غروسي "هذا القانون موجود، وهذا القانون سينفذ، ما يعني ان البروتوكول الاضافي للأسف سوف يُعَلّق". وأضاف "سوف يتم تقييد عملنا، لنواجه هذا الأمر. لكنّنا تمكنا من الإبقاء على الدرجة اللازمة من أعمال المراقبة والتحقق"، واصفا الترتيبات الجديدة بأنها "تفاهم تقني مؤقت".
ولم يعط غروسي تفاصيل دقيقة عن الأنشطة التي لن يكون بإمكان الوكالة الدولية للطاقة الذرية القيام بها، لكنه أكد عدم خفض عدد المفتشين في إيران واستمرار عمليات التفتيش المفاجئة في ظل التفاهم المؤقت. ومع ذلك سيبقى "التفاهم" الجديد خاضعا لمراجعة مستمرة ويمكن تعليقه في أي وقت.
وجاءت زيارة غروسي الى طهران وسط الجهود المكثفة التي تبذل بين إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن والقوى الأوروبية وإيران لإنقاذ الاتفاق النووي لعام 2015 الذي كان على وشك الانهيار منذ انسحاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب منه. ووصف غروسي اتفاق الأحد بأنه "نتيجة جيدة (…) ومنطقية" بعد "مشاورات مكثفة جدا" مع المسؤولين الايرانيين.
وأعلنت إيران من جهتها أنها أجرت مباحثات "مثمرة" مع المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية. وسبق لإيران التأكيد أن تنفيذ قرار البرلمان لن يؤدي الى وقف عمل المفتشين بالكامل أو طردهم، وهو موقف أعاد ظريف تأكيده الأحد، محذرا في الوقت نفسه من أن طهران ستواصل خفض التزاماتها ما لم يعد الأطراف الآخرون الى التزاماتهم، خصوصا رفع العقوبات.
وقال ظريف في حوار مع قناة "برس تي في" الإيرانية الناطقة بالانجليزية، إن طهران ستبلغ غروسي "عن احترام قواعد وقوانين بلادنا التي تعني تنفيذ قرار البرلمان (…) وفي الوقت نفسه، عدم الوصول الى طريق مسدود لكي يتمكن من تنفيذ الالتزامات لإظهار أن برنامج إيران النووي يبقى سلميا".
ورأى ظريف أن "شيئا لم يتغير” منذ تولي بايدن منصبه في يناير، وأن إدارته تواصل النهج الذي اعتمده ترامب". وحذّر من أن لإيران الحق في التراجع عن التزاماتها بشكل "كامل أو جزئي" في حال لم يلتزم الآخرون، مضيفا "لا زلنا في المرحلة الجزئية. يمكننا أن نكون (في المرحلة) الكاملة".
عودة بايدن
وانسحبت إدارة ترامب أحاديا من الاتفاق النووي عام 2018، وأعادت فرض عقوبات اقتصادية قاسية على طهران. بعد عام من ذلك، بدأت إيران بالتراجع تدريجا عن العديد من الالتزامات الأساسية في الاتفاق المبرم في فيينا عام 2015 بينها وبين كل من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وروسيا والصين وألمانيا.
وأبدت إدارة بايدن استعدادها للعودة إلى الاتفاق، لكنها اشترطت بداية عودة إيران إلى التزاماتها. في المقابل، تشدد طهران على أولوية رفع العقوبات، مؤكدة أنها ستعود إلى التزاماتها في حال قامت الولايات المتحدة بذلك.
وأبدت إدارة بايدن الخميس استعدادها للمشاركة في مباحثات برعاية الاتحاد الأوروبي ومشاركة كل أطراف الاتفاق، للبحث في السبل الممكنة لإحيائه. فيما قال عباس عراقجي نائب وزير الخارجية الإيراني إن طهران تدرس الاقتراح "ونتشاور مع أصدقائنا وحلفائنا مثل الصين وروسيا"، معتبرا أن رفع العقوبات مسألة لا تحتاج لتفاوض.
وسبق للولايات المتحدة والدول الأوروبية المنضوية في الاتفاق، تحذير إيران من تبعات خطوتها المقبلة. ودعت هذه الدول إيران الى تقييم "عواقب إجراء خطير كهذا". وأبلغ بايدن مؤتمر ميونيخ للأمن أن "تهديد الانتشار النووي لا يزال يتطلّب دبلوماسيّةً وتعاوناً دقيقَين (…) لهذا السبب قُلنا إنّنا مستعدّون لإعادة الانخراط في مفاوضات مع مجموعة 5+1 بشأن برنامج إيران النووي".
مفاوضات جانبية
وفي سياق متصل، نفى المتحدث باسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده إجراء مفاوضات مباشرة بين بلاده والولايات المتحدة للإفراج عن الأمريكيين المحتجزين في طهران. ونقلت وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية الإيرانية (إرنا) عن خطيب تأكيده أنه "لا صحة لخبر المفاوضات بالصورة التي أُعلِن عنها، ولم تجر أية مفاوضات مباشرة بين الجانبين".
وأضاف أن من أولويات بلاده "بالطبع متابعة الإفراج عن السجناء الإيرانيين في الولايات المتحدة والمعتقلين غالبا بلا جرائم صريحة". وأوضح: "لقد تم استلام رسائل من الحكومة الأمريكية الجديدة عن طريق السفارة السويسرية، بصفتها الراعية للمصالح الأمريكية، وبعض وزراء خارجية الدول الأخرى للإعلان عن الاستعداد لمتابعة هذه القضية".
وكان مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان أعلن أمس، أن إدارة الرئيس جو بايدن على اتصال بإيران للمطالبة بالإفراج عن الأمريكيين المحتجزين في طهران، وهي قضية قد تساعد في تحديد العلاقات المستقبلية بين البلدين.