شاهدنا الأبوين الذين كان يحملان رضيعهما المختنق بالغاز أمس صباحا، وذلك في أحداث فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة الخاص بالإخوان المسلمين من قبل قوات الشرطة والجيش، والذي مات فيه 526 قتيلاً قابلة للزيادة وفقا لتقارير وزارة الصحة، أو 2600 شهيد وفقا لتحالف دعم الشرعية.
كما شاهدنا الأمهات التي تخرج مهرولة مع أطفالها من الميادين بعد مشاهدة المجازر والدماء، واليوم تنتشر على صفحات التواصل الاجتماعي صور لكثير من الأطفال التائهين عن آبائهم، فهذه طفلة وجدوها ويبحثون عن أي شخص من أقربائها، وهذه أم تنشر صورة طفلتها التي تاهت منها أمس في أحداث فض الاعتصامات ولم تجدها حتى الآن.
وهذا يجعلنا نتساءل.. هل يجوز إقحام الأطفال في الأحداث السياسية الجارية في مصر؟ وهل من الطبيعي أن يتواجد أطفال رضع في يوم من أسوأ أيام مصر وهو يوم فض اعتصامي رابعة والنهضة؟
وهل يعد تواجد الأطفال في اعتصامات رابعة العدوية إرهابا ويجب تدخل منظمات حقوق الإنسان حتى لا نخلق جيلا جديدا من الإرهابيين، كما قالت السيدة ميرفت التلاوي في مؤتمرها الصحفي في الأول من أغسطس الجاري. في حين أن أولاد المصريين جميعهم خرجوا في ثورة يناير 2011، ولم نسمع من يقول إن هذا إرهابا.. هل هناك فرق؟
هل وضع الأطفال في البيوت أحسن حالا من وضعهم في الاعتصامات، مع الأخذ في الاعتبار الضغط العصبي الذي يتعرض له الآباء والأمهات بما يؤثر سلبا على الأطفال؟
كيف تؤثر مشاهد العنف والدماء التي ملأت عرض القنوات الفضائية وطولها، ويتعرض لها الأطفال مع آبائهم بوعي أو بدون وعي بالصدفة أو بغيرها.. كيف يؤثر ذلك كله على صغارنا مستقبل هذه الأمة؟
يجيب د.محمد المهدي استشاري الطب النفسي ورئيس قسم الطب النفسي بجامعة الزقازيق عن هذه التساؤلات فيقول إنه من زوايا كثيرة نرفض مشاركة الأطفال في الأحداث السياسية؛ لأنه أمر شديد الحساسية، أنه من الزاوية النفسية والطبية لا يجوز تعريض طفل لمثل هذه الظروف التي من الممكن أن تهدد سلامته أو حياته أو تهدد تكوينه النفسي وهذا متسق مع المواثيق الدولية للطفل والتي تراضي عليها كل عقلاء العالم، كما أن هذا يعد في عرف القانون جريمة وفي عرف الطب النفسي اساءة معاملة للطفل.
الطفل كائن رقيقًا وضعيفًا ولا يستطيع حماية نفسه ولا يستطيع أن يتخذ قرارًا خاصًا به، فالأب والأم يتخذان قرار تواجده في هذه الأماكن وهذا يعرضه للخطر بشكل كبير، كما أن التركيبة النفسية للطفل مازالت حساسة ولم تنضج بعد لذلك فتعرضه لمشاهد عنف ومناظر ومواقف غير مقبولة إنسانيا يحدث اضطرابا شديدا في تركيبته النفسية حيث أنه عير قادر على استيعاب ما يجري أمامه في منظومته المعرفية والوجدانية، ولذلك تحدث تأثيرات سلبية وجراح نفسية ربما يعاني منها بقية حياته.
وبناء على ذلك يعد الأب والأم وفقا للمواثيق الدولية وقوانين حقوق الطفل مسئولان قانونا عن تعريض طفلهما لمثل هذه الظروف وأنهما يحاسبان أمام الجهات القانونية على ارتكاب مثل هذا الفعل وأنهما قصرا في الحفاظ على سلامة طفلهما.
وإذا جئنا للنظرة الدينية التي ربما يرتكز عليها الآباء والأمهات الذين اصطحبوا أطفالهم أماكن الاعتصامات على اعتبار أنهم يجهزون أطفالهم للجهاد والشهادة ويغرسون في نفوسهم هذه المعاني مبكرا، فإننا نقول لهم بأن الرسول محمد صلي الله عليه وسلم كان يتفقد الجيوش قبل دخول المعارك ويرد صغار السن. على اعتبار المصلحة العليا للطفل أو حتى المراهق الذي لا تتحمل تركيبته النفسية ما يحدث من مواجهات وأخطار.
ولكن هل يمثل الأطفال ممن يشاركون في هذه الاعتصامات مشاريع إرهابية كما أشيع عنهم في المؤتمرات الصحفية والقنوات الفضائية؟
ليسوا إرهابيين بالطبع، ولكن الفكرة أنه إذا كانت النوايا تهدف إلى اعدادهم إعداد بطولي وجهادي إلا أن النتيجة هي أن هذا الطفل تترسب في داخله معاني عدائية تجاه المجتمع، ففي هذا المكان حيث يعتصم الأهل مع أبنائهم الصغار لا يفهم الطفل سوى أن هناك فصائل من المجتمع تعاديه وهو لا يفهم هذه الإشكالية، وعيه الصغير لا يدرك خلافا أيديولوجيا أو خلافا على الهوية، هو يستقبل الأمور بشكل مبسط ومختزل، وهنا يحدث تشويش للتركيبة المعرفية العادية البسيطة وربما تنمو بداخله اتجاهات عدائية تجاه فصائل وطوائف معينة، ويعتبرعلى سبيل المثال أن كل من يرتدي الزي الشرطي هو عدو له، وهذا يحدث نوع من المخاصمة بينه وبين مؤسسات مهمة في المجتمع. فالموقف فيه تداخلات وصراعات على الهوية لا يستوعبها إلا العقل الكبير.
وما الاختلاف بين هذا وبين مشاركة الأطفال في ثورة يناير، كان مرحبا بها بشكل كبير، حتى أن جُل الآباء قد حرصوا على تصوير أبنائهم في ميادين الثورة؟
يجب أن نتحلى بنظرة موضوعية، فهذا خطأ وهذا خطأ، يجب أن تكون هناك عدالة في الرؤية، يجب أن ننظر نظرة موضوعية لكل شىء في مصر حتى يشعر الناس بالأمان. في 25 يناير كان من الخطأ اصطحاب الأطفال كما أنه في رابعة العدوية خطأ اصطحاب الأطفال أيضا.
عندما نصطحب طفل ويحدث تدافع في المظاهرات فإن الشخص العاقل الكبير يجري أو يتماسك بصعوبة حتى لا يقع، أما الطفل فإنه يسقط ببساطة، وهذا أضعف الايمان، فما بالنا إذا حدث القاء لقنابل الغاز أو احتداد مجموعة على أخرى،أو إطلاق الرصاص، وهناك أبعاد أخرى أكثر صعوبة كالتي نمر بها هذه الأيام كالنزاعات الداخلية والاختلافات الأيديولوجية التي يكون الطفل فيها غير قادر على استيعابها.
ما يحدث في الحياة السياسية في مصر يؤثر على الجميع وعلى الآباء في البيوت فأصبحوا أكثر عصبية، بما أثر على تربية الأطفال والاهتمام بهم؟ كما أن التعرض للتلفاز والأخبار لم يعد يخلو من العنف والدماء.. كيف ننأى بأبنائنا عن كل هذا؟
الجزء الاضطراراى لا مفر منه، لكن الضرورة تقضي بأن نرجع الأطفال لممارسة حياتهم الطبيعية، فلا يجب أن نورط الطفل فيما هو فوق قدرتة وأعلى من طاقته في الوقت الحالي. وإذا كان ولابد أن يدرك للأحداث، فليدركها بشكل بسيط فيعرف أن هناك مظاهرات في المكان الفلاني، ليس من الصحيح أيضا أن نعزل الطفل تماما وأن يعيش في عالم وهمي منقطع الصلة عما يدور حوله، يجب أن نقرب له ما يدور بشكل مبسط وهادىء ولا نضعه في بؤرة الحدث ونجعله يسمع ويرى بنفسه، شتان بين هذا وذاك.
أصبحت القنوات الفضائية والإعلام بشكل عام منقسم بين جبهتين عريضتين والإعلام في كل جبهة لا يألوا جهدا عن ذبح وسلخ الطرف في الجبهة الأخرى.. والمشكلة أن كل طرف يتحدث عن أنه يقول الحقيقة ويحتكرها.. حتى أن الكبار أنفسهم اختل توازنهم.. كيف يؤثر ذلك على إدراك الأطفال للحقيقة؟ وكيف يمكن التعامل معهم وإفهامهم الحقيقة في الوقت الذي أصبحت الحقيقة فيه نسبية؟
لابد من الاعتراف بأنه حصلت شروخ شديدة العمق في المجتمع وأهم دليل على ذلك أنها وصلت إلى البيت وأحدثت هوة عميقة بين الزوج والزوجة، وقد يضطر الأطفال إلى الانضمام إلى أحد أطراف الأسرة ضد الآخر، ليس لاقتناعه بذلك ولكن لتعاطفه مع طرف ضد الآخر، وبذلك ينضم الأطفال إلى نفس الصراع، وموقف الأطفال وتفهمهم للخلاف وتعاملهم معه واستخدامهم للغة معينة دون أخرى يتحدد وفقا لما يفعله الكبار، يجب أن تكون لغة الاختلاف هادئة ومتزنة ومتحضرة، يجب أن يكون هناك حدا أدنى من المودة يظهر في هذا الاختلاف، كما يجب أن يحرص الآباء بالرغم من كل ما يحدث أن يستغلوا الموقف كي يعطوا لأبنائهم نموذجا متحضرا لكيفية الاختلاف.
يجب الحرص والحذر بشدة مما يتعرض له أطفالنا في الإعلام، وإذا حدث وتعرض الصغار لشىء عنيف أو غير لائق، لا نتركهم دون تعليق وأن نوضح لهم ببساطة ما يجري في مصر.