رئيس التحرير: عادل صبري 02:43 مساءً | الأحد 06 يوليو 2025 م | 10 محرم 1447 هـ | الـقـاهـره °

لا مكان للحياد.. قراءة في أحد أعمال جورج أورويل

لا مكان للحياد.. قراءة في أحد أعمال جورج أورويل

مقالات مختارة

عبد الله عرفان يقرأ "الحنين إلى كتالونيا"..

لا مكان للحياد.. قراءة في أحد أعمال جورج أورويل

عبد الله عرفان 29 يوليو 2015 14:49

تتشابه الحروب وتتطابق مآسيها برتابة لدرجة تكرار تَنَكُّر الإنسان لذلك. ما عَرضه جورج أورويل في روايته “حنين إلى كتالونيا” عن الحرب الأهلية الإسبانية نراه واقعًا يوميًا في حروبنا من سوريا والعراق لليبيا واليمن ومصر، بينما يصرُّ كل بلد على أن واقعه مختلف وبلواه فريدة.

كان التشرذم في الحرب الأهلية الإسبانية ناجمًا عن الضعف العام في بنية الدولة نفسها، لا منشئًا له. هذا الضعف في بنيتها المادية الداخلية لم يُغر القوى الخارجية بدعمها بجدية كما دعم حلفاء فرانكو قواته إلى النصر. ولعل الضعف أيضًا لم يُمكنها من الاستفادة مما قُدِمَ لها في مقابل قُدرَةِ فرانكو على تنظيم قواته والاستفادة من موارده المحلية ما كان حريًا به أن يستفيد من المساعدات الأجنبية بأكثر منهم. الأهم في ملاحظات أورويل، هو أن الضعف لم يكن ماديًا فقط؛ بل كان معنويًا وخلقيًا أيضًا لدى جميع أطراف الحرب داخل معسكر الثورة كما داخل معسكر فرانكو.

آمن أورويل بالثورة ومبادئها وأخلاقها وكان يعيش ذلك في كل لحظاته، حتى في أحلكها. يَحكي كيف أنه خرج ذات صباح لقنص أحد الفاشيين من مسافة قريبة، ولكنه بعد أن رآه يجري وهو يمسك بنطاله بكلتا يديه خوفًا من أن ينزلق فتنكشف عورته، أنف من إطلاق النار عليه. “هذا ليس فاشيًا، من يجري ويمسك بنطاله بيديه ليس فاشيًا، إنما هو مخلوق، مثل سائر المخلوقات أمثالنا، فلا يسرك إطلاق النار عليه”، هكذا قال أورويل.

هذه لحظة تُصور الجو الأخلاقي الذي كان يعيشه أورويل هو ومن معه من المقاتلين من أجل الحرية، أو ما تخيلوه كذلك وقتها. هذه الحساسية لكل ما هو أخلاقي أبرزها أورويل في تعليقاته على الإعلام ودور المثقفين وكيفية التعاطي مع الضحايا والسؤال الأخلاقي المتعلق بالحياد وإمكانه.

دور الإعلام في الحروب معروف وقديم، ولكنه كريه بذات الوقت. اشتكى أورويل من لا أخلاقية ولا مهنية الصحافة ونعى تقلبها الفج والدوري في مواقفها من أطراف الحرب. فمن التهكم الواضح على أمجاد الحرب وعدم المبالاة بالفظائع المرتكبة من قوات فرانكو ونعت الثورة بأنها “جريمة” تحولت إلى التأييد المطلق لحق الجمهوريين في الثورة التي نعتتها بأنها “مجيدة”. هكذا كانوا ينتقلون من تَنبيلِ الثوار إلى تجريمهم بدون نُتفةِ تبرير. كذلك كانت الإنتلجنسيا وطبقة المثقفين الإنجليز الذين أيدوا الحرب “من منازلهم” بدون أن يعرفوا أهوالها ولم يذوقوا مراراتها ولم يتنشقوا رائحة الموت في طرقاتها.

كانت دوافع هذه الطبقة من المُحَرِضين اللامسؤولين هي “الأموال والسلامة الشخصية”. هؤلاء لم يقاتلوا بأنفسهم، لكنهم قَتلوا بأقلامهم. لم يمسك أحد من هؤلاء بندقية، ولم تتعفر رجله في خنادق الصفوف الأولى، ولم يعان من نقص غذاء ولا دواء. كما أن أحدهم، بالتأكيد، لم يفقد عزيزًا أو قريبًا أو يخسر يدًا أو تفقأ له عين.

يشكك أورويل في تاريخ الحروب الذي يشوه بيد الجميع حتى قبل نهاية الحرب، ويعتمده المنتصر بعدها؛ ففي عز الحرب والمعمعة تقرأ عن أحداث لم تحدث وأهوال لم يرها أحد وعن بطولات هي في خيال كاتبها فقط؛ ففي إسبانيا قرأ أورويل عن معارك عظيمة في أماكن لم يجر فيها أي قتال من الأساس، في حين كان الصمت المطبق هو سلوكها تجاه مقتل مئات الجنود في مناطق أخرى. هناك أيضًا قرأ كيف أن هؤلاء المقاتلين الصناديد في الحقيقة تم تصويرهم كجبناء رعاديد في الصحيفة، بينما دُبجت مقالات التمجيد في آخرين لم يطلقوا ولو طلقة واحدة. “هنا كان التاريخ يكتب ليس كما يقع، لكن كما كان يجب أن يقع، بموجب الخطوط الحزبية”.

كان سلوك المتحاربين اللاأخلاقي مفهومًا في سياق الحرب، لكن كيف نفهم لا أخلاقية مؤيدي الطرفين من غير المحاربين؟ هذا ما حار فيه أورويل عندما عبر عن استيائه من كيفية تسييس التعاطف مع الضحايا تبعًا للمواقف السياسية للأشخاص؛ حيث  كان تصديق أو تكذيب الفظائع والجرائم المرتكبة من الطرفين بناء على التعاطف السياسي. من جهته، لم ينكر أورويل أن الثوار قد ارتكبوا بعض الفظائع، لكنه يراها صغيرة لا تقارن بما ارتكبه فرانكو. ليست القضية هنا من ارتكب أكبر قدر من الجرائم، القضية هي استبعاد كل مؤيد وإنكاره لأي احتمال لارتكاب جرائم من قبل من يؤيده؛ ففي أثناء الثورة بين 1936 و1939 كان الإنجليز ينكرون أي جرائم لفرانكو وحليفته ألمانيا النازية طمعًا في التحالف معها، لكن مع تحول ألمانيا إلى عداء إنجلترا وقيام الحرب العالمية الثانية ظهرت كل الفظائع التي ارتكبها الألمان مع فرانكو في إسبانيا، في الوقت الذي كانت فيه مُنكرة تمامًا منذ سنوات قليلة فقط.

بعد قرابة نصف عام حافلة غادر أورويل الثورة في منتصف 1937 هاربًا بعد إصابته في عنقه برصاصة مرت إلى جوار شريانه الرئيس ببضعة مليمترات كما أخبره الطبيب وقتها. حينها كانت ميليشيا POUMs التروتسكية التي قاتل فيها قد حُلت من قبل حكومة الشيوعيين في مدريد بعد صراعات على مسار الثورة انتهت بهزيمة الجميع في 1939. رأى أورويل الأهوال والمكائد والاضطهاد وسوء التفاهم من قبل رفقاء الدرب قبل الأعداء، لكنه لم يفقد أبدًا إيمانه بعدالة قضيته وصواب قراره.

هنا يتركنا أورويل أمام أنفسنا وقلوبنا لنقرر في أي جانب نقف ولأي فريق ننحاز. لا يتسامح أورويل مع من يقول بأن “كل جانب هو أسوأ من الآخر؛ لذلك فأنا محايد”. فبنظره “لا يمكن عمليًا أن يظل المرء محايدًا، وليس ثمة حرب لا فرق من ينتصر فيها. فدائما تقريبًا يقف أحد الجانبين إلى صف التقدم، قليلًا أو كثيرًا، ويقف الآخر إلى جانب الرجعية”. هنا يحسم أورويل رأيه بأنه مع الثورة، لا لإمكان انتصارها من عدمه، لكن لما أثارته في نفوس الفاشيين والفاسدين والمستبدين من حقد وكراهية وفزع. هو مع المستقبل إذن، وأنا معه.

عن التقرير

اقرأ أيضا..

  • تعليقات فيسبوك
  • اعلان

    اعلان